لم يتخيل أحد من مشاهدي فيلم افتتاح الدورة الـ12 من بانوراما الفيلم الأوروبي، أنه على موعد مع كل هذا الألم، الذي جعل جارتي في المقعد المجاور تقضي نصف زمن عرض الفيلم تقريبا تبكي.
اتخذ الفيلم منذ أول مشهد أسلوب الأفلام التسجيلية البسيطة، واستغرق الأمر ما يقرب من نصف دقيقة حتى تظهر أول صورة على شاشة العرض، بعد حوار بين شخصين على شاشة سوداء.
تسجيل الصوت، وتقطيع جمل الحوار، وحركة الكاميرا في المساحات الضيقة، والمونتاج، كل هذه التقنيات الفنية، نقلت المشاهد سريعا إلى "مود" الفيلم، الذي ينقل صورة حية حقيقية من معاناة مادية لأسرة صغيرة تعيش داخل إحدى الشقق الصغيرة في مدينة "نيوكاسل" الإنجليزية.
لا لعب بالكاميرا، لا كادرات مبتكرة، لا ألاعيب فنية، الغرض هنا هو إيصال الرسالة، بسيطة بساطة حياة الأسرة وحلمها، مباشرة وواضحة وقوية مثل المشاكل التي تحيطهم وتعصف بهم من كل جانب، متحدية تحدى رب الأسرة الذي يقاتل للرمق الأخير رافضا الاستسلام إلا للموت.
تلك الأسرة الصغيرة، التي بدأت الحياة بشكل تقليدي، اعتمادا على عمل الأب والأم على امتلاك منزل للأسرة بنظام التمويل العقاري، وهو ما كاد يحدث لولا إعلان الشركة التي يعمل بها الأب إفلاسها، لتنقلب كل خططهم رأسا على عقب، ويعود الزوجان لنقطة الصفر، لكن بعدما أصبحت الأسرة تتكون من أربعة أفراد ابن في فترة المراهقة وابنة في الصفوف الأولى لها بالمدرسة.
وعكس البدايات التقليدية للدراما، لم تتصاعد الأحداث حتى تصل بنا إلى هذه الأزمة، بل بدأت بها مباشرة، لنعيش طول مدة الفيلم، التي وصلت إلى 100 دقيقة، في اللهاث بحثا مع الزوجين عن حل يتمكنان من خلاله من الحصول على حياة أفضل لهما ولابنيهما.
الإنجليزي كِن لوتش مخرج الفيلم "الاشتراكي"، الذي غاص بنا -ببساطة وصراحة تتميز بها أعماله- في عالم الرأسمالية المتوحش، الذي يتحول فيه الإنسان إلى رقم مجرد، لا مشاعر، لا ظروف، لا إنسانية، مهما رفع شعارات براقة تكشف سريعا عن زيفها، الربح فقط والإيرادات النهائية هى ما يريده هذا النظام المتوحش، وما ينراه، وما يعترف به فقط.
"نأسف لأنك لم تجدنا" استكمالا لرحلة لوتش الطويلة التي تطابق فيها إبداعه الفني مع معتقده السياسي الاجتماعي، إلقاء الضوء على الفرد ومعاناته، المهمشين الذين يواجهون عالما قاسيا تفرم تروسه الجميع دون رحمة، ورغم أنه أعلن عام 2014 أن فيلمه "ردهة جيمي" سيكون الأخير في مشواره، فإنه عاد وقدم "أنا، دانيال بلايك" في 2016، ثم " "نأسف لأنك لم تجدنا" في 2019، ليواصل تقديم معاناة الطبقة العاملة مرة بعد مرة، وكأنه مصمم على إيصال الصرحة، حتى لو كررها مرارا وتكرارا.
عرض الفيلم (إنتاج: المملكة المتحدة، فرنسا، بلجيكا) في افتتاح "بانوراما الفيلم الأوروبي 12"، التي تستمر فعالياتها حتى 16 نوفمبر، جاء بعد عرضه في عدة محافل دولية منها: المسابقة الرسمية بمهرجان كان السينمائي الدولي ٢٠١٩، البرنامج الرسمي لمهرجان تورونتو السينمائي الدولي ٢٠١٩، البرنامج الرسمي لمهرجان سيدني السينمائي ٢٠١٩، ونال الممثلون: كريس هيتش، ودِبي هانيوود، وريس ستون، ردود أفعال ممتازة.
لم يكن الفيلم رحيما بالمشاهدين وقرر مخرجه أن يقدم فيلما صادما عن حياة واقعية يعيشها الكثيرون، لم يمنحهم فرصة للضحك حتى لو عن طريق السخرية، كانت المعاناة مسيطرة على العرض وانتقلت بقوة للصالة، التي سرعان ما غلفها صمت حزين، تعاطفا مع الأب والأم في رحلة العمل الشاقة التي لا ترحم، وارتباكا أمام المراهق الذي أفقدته ظروف والده الثقة في المستقبل وجدوى التعليم والعمل، وبكاءً مع الطفلة الصغيرة التي لا تريد سوى أن تعيش حياة سعيدة دافئة في أسرة مستقرة، ولا تحلم إلا برؤية والدتها ووالدها قبل ذهابها للنوم.
اقرأ أيضا للكاتب
"خيال مآته" ... عندما تشاهد فيلما داخل فيلم
بعد أكثر من 50 عاما ... مصير أبطال "السقوط في بئر سبع" الحقيقيين
"الممر"... يفتح الطريق لبطولات الجيش المصري إلى شاشة السينما