عنيف شرس متطرف في وحشيته كأنه الشيطان، رقيق وديع مسرف في طيبته مثل طفل بريء، عاقل حكيم يُضرب باتزانه المثل، أرعن مندفع كالطوفان العارم، أرستقراطي متعجرف يجزم من يراه أنه سليل باشوات، شعبي قح توحي هيئته بأنه لم يغادر الحارة منذ ميلاده.
وجوه متعددة متنافرة متناقضة، وداخل كل وجه تجليات متباينة، فالشر والخير عنده درجات. لا يملك المشاهد المسحور بأدائه الواثق المقنع السلس، التلقائي العفوي البسيط، إلا أن يقر بعبقرية الفنان الأصيل ذي الأسلوب الاحترافي رفيع المستوى، لكنه لم ينل من الشهرة وذيوع الصيت ما يعادل حجم موهبته وعطائه الثري.
عدلي كاسب علامة بارزة مضيئة في تاريخ السينما المصرية، فضلا عن إبداعه المتميز اللافت في المسرح والتليفزيون، وواحد من أبناء الجيل الجاد المثقف الملتزم، المحب للفن والمؤمن برسالته. العمل عنده متعة وهدف، والتحقق المشبع جائزة كبرى يقنع بها ويفرح. لا شك أنه في أعماقهم على يقين من انتصار التاريخ له، وإن تعثر إنصافه وتأخر.
...................
الشر النمطي ليس واردا عند عدلي، فلكل شخصية توصف بالشر مفاتيحها ودوافعها وسماتها الخاصة التي ينبغي أن توضع في الاعتبار. لا يعتمد الفنان المتمكن على ضخامة الجسد وما توحي به من قدرة على البطش وإلحاق الأذى. الشر تكوين نفسي وليس جسديا، ومن هنا تظهر الفوارق الشاسعة بين الأب السكير غير السوي في "المراهقات"، 1960، والأخ الجشع الذي يمتهن الجزارة ويدمن العنف في "السفيرة عزيزة"، 1961، والتاجر الثري العاشق المتعالي طبقيا في "زقاق المدق"، 1963، وهؤلاء جميعا يختلفون جذريا عن أبي جهل في "هجرة الرسول"، 1964.
شاكر، في "المراهقات"، شخصية معتلة الأعصاب، سكير نهم للطعام والجنس، عصبي متوتر دائما. يسيء معاملة ابنه الوحيد أحمد، جلال عيسى، على الرغم من نجاحه وتفوقه، ويبدو لطيفا حانيا مع ابنة زوجه صفية، زيزي مصطفى. يهيج ويحتد لأتفه الأسباب، أو بلا أسباب، ويحشد عدلي كاسب كل أدواته التعبيرية ليتجسد وحشا آدميا، يشتم ويضرب ويمزق الكتب ويطرد الابن في قسوة من يتلذذ بالسلوك السادي. مشاهدو الفيلم يجمعون بين كراهيته وسيطرة الشعور بالعجز عن فهمه، فهو مريض بالشراسة غير المبررة.
الأمر مختلف عند الجزار عباس في "السفيرة عزيزة"، ذلك أن دوافع الشر عنده تتمثل في الجشع المادي والرغبة في الاستحواذ على ميراث شقيقته، فضلا عن استعداد فطري للعنف، ما يقوده إلى السجن مدانا بانتهاك التسعيرة ومقاومة السلطات. طريقة عدلي في الإمساك بالساطور والتلويح به دليل عملي غير مباشر على عدوانيته الأصيلة، وصوته الخشن الجاف علامة شراسته، لكنه "ابن بلد" تحيط به شلة من الأصدقاء الطيبين الذين لا يمكن تصنيفهم في دائرة الشر. هزيمته أمام زوج أخته، شكري سرحان، قرب نهاية الفيلم، لا تبدو منطقية مقنعة بمقاييس القوة، لكن أبطال السينما المصرية ينتصرون عادة لأسباب تجارية!.
سليم علوان في "زقاق المدق" شرير "معتدل" مقارنة بسابقيه، ذلك أن عشقه لفاتنة الزقاق حميدة، شادية، يدفعه إلى الإقدام على خطبتها دون الاهتمام بخطيبها الفقير عباس، صلاح قابيل. عشقه للفتاة حسي جنسي خالص، وكم يبدو عدلي بارعا متمكنا في الإعلان عن امتعاضه عند مقارنته بالغريم الشاب الذي لا يرقى إلى مكانته الاجتماعية :"الواد الحلاق الشحات ده!".
الانتصار ميسور على عباس لغياب الندية والتكافؤ، لكن المرض يطيح بالتاجر الثري فلا يبقى من شره إلا التوتر والغضب. إنه شر اجتماعي طبقي ذو دوافع عاطفية مفهومة مبررة في الإطار الإنساني، أما عن أبي جهل في "هجرة الرسول" فإنه يمثل الشر المطلق، ما يستدعي التهيؤ لتجسيد الشخصية عبر منظور أحادي متحامل، يجمع بين الظاهر الشكلي القبيح والباطن الذي يستوطنه الغل. عندما يتعلق الأمر بالموروث الديني وقداسته، تتوارى المعايير الفنية وتغيب منهجية الأداء المتوازن.
......................
بالتكوين الجسدي العملاق نفسه، ومن خلال الملامح التي تتجهم في غلظة موحية بالشر، ينتقل عدلي كاسب لتقديم شخصيات طيبة خيرة، تقترب أحيانا من الوقوف على عتبات الغفلة والسذاجة.
سالم سلامة سليمان، رئيس تحرير جريدة "النور" في "سر طاقية الإخفاء"، 1959، رجل طيب ذو توجه كوميدي قوامه اللحية الغرائبية والانفعال العصبي، فضلا عن التحول السريع من الغضب إلى الرضا ومن القسوة الشكلية غير الأصيلة إلى المبالغة في الرقة. يسهل تصديقه لكل ما يُقال له، ويكرر كالأطفال كلمة "البلالم" متوهما أنها أداة الاختفاء السحرية. ما هكذا يكون رؤساء التحرير بطبيعة الحال، لكن الفيلم في مجمله خارج الأطر التقليدية، والموهبة الكوميدية كامنة في أعماق الشرير المبدع.
في "لقاء في الغروب"، 1960، يقدم عدلي واحدا من أهم شخصياته. ينفرد بالدور الرئيس في النصف الأول من أحداث الفيلم، ويتألق بعفويته وتلقائيته في تجسيد شخصية عزت، الزوج والأب الثري المرح الأقرب في بساطته الخلابة إلى عالم الأطفال أنقياء القلوب. نهم في الطعام، بريء صريح في الكشف عن مشاعره ورغباته، ولا يتقن صنعة الكلام المنمق الذي تتوق إليه الزوجة آمال، مريم فخر الدين.
يحبها على طريقته مثلما يحب ابنه الوحيد ممدوح، ومن يتأمل ملامح عدلي المسكونة بالصفاء والطيبة، لن يصدق بسهولة أنه شاكر وعباس وسليم و"أبو جهل". كيف يتحكم الممثل القدير في خريطة وجهه على هذا النحو، متحولا من الشر المخيف إلى الطيبة المتطرفة المشتبكة مع السذاجة؟. هنا تكمن الموهبة التي تبرهن على أن مدمني النمطية والتكرار الممل ليسوا موهوبين، بل إنهم ليسوا ممثلين.
الأب الطيب البشوش في "عائلة زيزي"، 1963، و"نغم في حياتي"، 1975، امتداد على نحو ما لشخصية عزت، أما مصطفى علوان والد العريس جلال في "أم العروسة"، 1963، فشخصية ذات نسيج مختلف في مسيرة عدلي السينمائية. إنه صديق حميم جدير بالحب عند مشاهدي الفيلم، وفي أسلوب أدائه "نداهة" تستقطب العيون والقلوب معا. يفجر الضحكات الصافية بطريقته في الكلام والتهام الفاكهة، ويتناسى الجميع أنه زوج باهت الشخصية. ينصب التركيز كله على المرح الذي لا تشوبه شائبة من الافتعال والابتذال. غاية ما يُقال عنه إنه رجل طيب، وما أجمل أن تكون رجلا طيبا.
...................
بين البراعة في أدوار الشر بتجلياته المختلفة، والتمكن في تجسيد الطيبة والبراءة، يتحرك عدلي أيضا في الساحة الفسيحة التي تفصل بين العالمين، ويكشف عن قدرة جديرة بالإعجاب في معايشة شخصيات يصعب تصنيفها إلا في دائرة الانتماء الإنساني العام.
وكيل النيابة في "حب وإعدام"، 1956، قوي وقور متزن كما يليق بوظيفته، والكهل الذي ينخرط في شلة المترددين على القهوة في "الكرنك"، 1975، جاد عاقل مسكون بمزيج من الخوف والسخرية، وفي "صغيرة على الحب"، 1966، يبدع عدلي في تقديم شخصية شاكر، زوج شقيقة سعاد حسني. يتسم بالعصبية والاندفاع بفعل المفارقات وسوء الفهم، وعندما يزول اللبس يظهر الوجه الآخر الملتزم بالتقاليد والأعراف.
في "مدرس خصوصي"، 1965، يتألق عدلي في تجسيد شخصية الزوج العنيد والأب الصارم، ولا متسع هنا للحديث عن ثنائية الخير والشر، ذلك أن الأغلب الأعم من ردود أفعاله منطقية مبررة قابلة للفهم والاستيعاب.
ضابط الشرطة مساعد الحكمدار في "حياة أو موت"، 1954، وضابط الجيش الكبير الذي يتولى منصبا قياديا بالكلية الحربية في "رد قلبي"، 1957، وأيضا ضابط الجيش المتعاطف مع ابنتي شقيقه في "نادية"، 1969؛ نماذج للأدوار الصغيرة محدودة المشاهد والتأثير، يؤديها الفنان المحترف الملتزم في كفاءة وإخلاص، وماأكثر هذه الأدوار.
التوقف ضروري أمام دورين صغيرين مهمين يقدمهما عدلي كاسب في "الزوجة العذراء"، 1958، و"اللص والكلاب"، 1962. محروس سايس الاصطبل الفحل القوي، الذي يكشف بأسلوب فني غير مباشر عن أزمة العاجز مجدي بك، أحمد مظهر، والمخبر حسب الله بكل ما في إيقاعه الواثق المحسوب من تعبير عن سطوة السلطة التي يقبع في قاعها، ويستمد من مكانته المتواضعة نفوذا يتوافق مع البيئة الشعبية التي يتحرك الجميع في إطار قواعدها الخاصة.
....................
ربع قرن من الإبداع السينمائي، يبدأ في السنوات الأولى من خمسينيات القرن العشرين، وينتهي برحيله قرب نهاية السبعينيات. عشرات الأفلام والشخصيات، وتنوع في الوجوه يثير الدهشة والإعجاب. حصيلة العطاء المحترم تضمن للممثل العملاق مكانة تزداد توهجا مع كرور السنين، وهل يصح في النهاية إلا الصحيح؟.
--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"