لا أظنني أحببت أحدا من عباقرة الظل حبي لإبراهيم قدري "1930- 1999"، الممثل الفذ المتفرد عند إعمال المقاييس الفنية الخالصة، دون نظر إلى النجومية الزائفة التي يصنعها المناخ الرديء للسينما المصرية.
قصير نحيل تستوطن وجهه تجاعيد مزمنة عتيقة كأنه ولد شيخا مسنا، لا متسع في فصول حياته للطفولة والمراهقة والشباب، أما نبرة صوته فذات إيقاع مختلف، هي مزيج نادر من الشجن والتعب، فضلا عن المرح الخافت الكامن الذي تكتمل به لوحة الألم والوجيعة.
إنه فنان يمثل بوجهه وجسده ومشيته التي تبلور الشعور بالضآلة والهامشية وقلة الحيلة، لكن فيها قوة غامضة لا مسمى لها؛ قوة الاستهانة واللامبالاة.
في عشرات الأفلام التي يقدمها إبراهيم لا يظهر اسمه في الصدارة، لكن حضوره ساطع متوهج، وطلته تسكن القلوب والأرواح. محترف تربطه صداقة وثيقة بالكاميرا، تحبه كما يحبها، وهيهات أن يصنع الحب المتبادل نجما!.
بعد سنوات من مشاهدة فيلم "لا وقت للحب"، قرأت قصة يوسف إدريس المأخوذ عنها الفيلم :"قصة حب"، واكتشفت بلا عناء أن إبراهيم قدري هو الوحيد المهيأ لتجسيد شخصية "إسماعيل أبو دومة". الممثل القدير في مطلع الثلاثينيات من عمره، ويبدو أكبر كثيرا. علامة من علامات مدينة الموتى، وفي ملابسه وجلسته وتدخينه للجوزة ما يؤكد أنه ابن أصيل للمكان ومهنة التُربي، أما صوته متعدد الطبقات فيتجاوز الأذن ويقتحم القلب بدفئه وقدرته المدهشة على التلوين والإيحاء. يقول للزائر حمزة :"دا أنا مولود هنا.. وباشتغل هنا.. وبإذن الله بعد عمر طويل ها اندفن هنا".
يرى الرجل نفسه نجما ذائع الصيت في المنطقة، وإليه يلجأ الوطني الثوري حمزة، رشدي أباظة، وحبيبته فوزية، فاتن حمامة، بحثا عن ملاذ آمن من المطاردة البوليسية. عندئذ يظهر الوجه الوطني والإنساني لإسماعيل، ويتألق قدري في التعبير عن شخصية ابن البلد الشعبي البسيط الذي يعرف أسرار الخلية الثورية و"الديناميت" المخبأ في المقابر :"دا أنا ثورجي ووطني وأعجبك تمام".
يباهي بمشاركته في ثورة 1919، وفي المشاهد التي تجمعه برشدي أباظة وفاتن حمامة، تنحاز الكاميرا إليه، ويطغى حضوره المتوهج على النجم والنجمة. كتلة من الحيوية والجاذبية والسحر، وسيطرة محترف متمكن على الشخصية التي يذوب فيها. عفوي تلقائي طيب القلب، مسلح بالبراءة كأنه طفل، لا يخاف الموت والحياة معا.
يصل قدري إلى ذروة الإتقان عندما يرفض منحة حمزة المالية، ويراها إهانة تخدش الكرامة والكبرياء :"الله الله.. إيه ده يا سي حمزة.. انت بتشتمني؟.. حد قالك إن إسماعيل أبو دومة بتاع كلام من ده!.. أنا راجل فقير صحيح إنما عندي مرّوة.. ولا إكمني يعني راجل فقير.. دا انت ضيفي يا سي حمزة.. أنا عملت فيك إيه أنا عشان تعمل فيا كده؟.. كأنك قلعت الجزمة وضربتني بيها.. روح يا شيخ الله يسامحك".
التفرد الجدير بالإعجاب لا يكمن في الكلمات الشجنية المؤثرة، لكنه في تكاملية أداء إبراهيم قدري. الوجه المعبر بتحولاته المباغتة المقنعة، تطويع لغة الجسد والصوت الذي يكتمل به التأثير بلا ذرة من التصنع والافتعال.
ينتهي الفيلم ويبقى قدري حاضرا في أعماق المشاهد الذي يدرك بفطرته أنه في مواجهة ممثل خارق الموهبة، ثروته في التوحد مع الشخصية التي يجسّدها ويضيف إلى النص المكتوب لمساته التي تمنح الخصوصية والطزاجة.
بعد سبع سنوات، يقدم إبراهيم دورا مشابها في "يوميات نائب في الأرياف"، فهو اللحاد الذي يفتح القبر لتشريح جثة زوجة قمر الدولة علوان. يهبط في خفة المهني المحترف إلى القبر، ويستخرج جثة رجل فيتعرض للتوبيخ من الطبيب الشرعي، ولا يختلف الأمر مع الجثتين الثانية والثالثة. عندئذ يعلق التُربي النحيل بصوته الذي تحبه الأذن ولا تخطئه :"الله.. أمال النسوان راحت فين!".
تتقلص مساحة الدور بما لا يتيح لثريّ الموهبة أن يكشف عن قدراته، لكن الراسخ المستقر هو تألقه في أدوار البسطاء العاديين من آحاد الناس وملح الأرض.
إبراهيم قدري هو الفلاح الفقير المأزوم بائع البقرة التي لا يملك غيرها في "شيء من الخوف"، ولا يهنأ بشيء من حصيلة البيع الاضطراري.
الإتاوة المفروضة عليه قهرا ضعف ثمن بقرته، والاحتجاج التنفيسي يعرّضه لمزيد من البطش. وهو المدلك حسنين في "حمام الملاطيلي"، صاحب العبارة الموجزة الدالة التي تمثل مفتاحا مهما للكشف عن الرؤية المقدمة في الفيلم :"يتوب علينا ربنا"!
صبيّ حمام نشيط كأنه ولد ليكون صبيّ حمام، يتحرك كالنحلة عاري الصدر بارز العظام، شاهدا بحركته وصوته المعبر على الحياة الموازية التي لا يتأتى إدراكها إلا لمن يحتكون بها عن قرب، وهل أقرب من حسنين؟
مدلك بارع لا يملك من يراه إلا أن يوقن بأن مهنته هذه هي العمل الذي يحترفه طيلة العمر، أما عن تعبيرات وجهه الموحية فعلامة على المدرسة التي ينتمي إليها وترتفع به عن العاديين من أشباه الممثلين.
في شخصيات اللحاد والفلاح الفقير وصبيّ الحمام الشعبي، وما يشبه ذلك من مهن متواضعة، يتحقق إبراهيم قدري ويضفي على هؤلاء البسطاء المهمشين عمقا يرتقي بهم، وفي هذا الإطار يمكن قراءة أدواره الصغيرة ذات المذاق المختلف في "قاع المدينة" و"السقا مات" و"الكرنك" و"المذنبون" و"أهل القمة" و"غريب في بيتي" و"خرج ولم يعد"، البواب والعطار وماسح الأحذية وتاجر الفراخ والسمسار والتومرجي. أدوار محدودة المشاهد، وقد تكون مشهدا واحدا، لكنها تستدعي التوقف أمام براعته التي تدفع المشاهد إلى مبايعة الرجل نجما دون انشغال بمن يواجهونه من النجوم.
العطار في "السقا مات" بارع في صنعة الوصفات الجنسية، يستمع في حكمة العجائز لما يطلبه شحاتة أفندي، فريد شوقي :"حاجة كده من اللي بتوضبها لروحك"، ويرد ساخرا صادقا :"هو يا ابني عاد فينا توضيب.. ما خلاص بقى".
لا يملك إلا أن يقبع في الهامش منسيا مهملا، وفي "على باب الوزير" يتخذ من المرض مهنة ومصدرا للرزق. يعرض عليه طالب الطب الفقير كمال، عادل إمام، خمسة جنيهات ليشرح له حالته، ويرفض المريض المحترف بلا تردد:
"- خمسة جنيه إيه؟ أنا بأبيع ترمس! أنا مش ها أفتح بقي بأقل من عشرين جنيه.
- عشرين جنيه!
- وإيه يعني عشرين جنيه! بكره تبقى دكتور قد الدنيا وتجيب العشرين جنيه دول من عيان واحد".
الدنيا بنت الحيلة، وما أسهل أن تتحول نقمة المرض إلى نعمة. كلُّ يبيع ما يملك أن يبيعه، وليس مثل فنان الهامشيين والمهمشين في القدرة على الإقناع بمشروعية ومنطقية الصفقة.
هل يصلح إبراهيم قدري لتجسيد دور الموظف الأفندي المنتمي إلى طبقة أعلى قليلا؟. الإجابة بالإيجاب، لكن أقصى ما يصل إليه هذا الموظف أن يكون من الصغار المطحونين الذين يكابدون الفقر والحرمان، محسوبا في نهاية الأمر على الضائعين في حياة قاسية تطحن الفقراء بلا رحمة، دون نظر إلى ملابسهم.
هكذا يمكن تصنيف أدوار قدري في "سونيا والمجنون" و"عاصفة من الدموع" و"سواق الأتوبيس" و"يارب ولد". ليس مستغربا أن يكون حشاشا مدمنا في "الباطنية"، يقف في الطابور بحثا عن المتعة التي يتوافق من خلالها مع التعاسة، لكنه يتعرض لبطش الزوجة المتنمرة واعتداء واحد من منظمي طابور التعساء!.
بتكوينه الجسدي الهش وقوته الروحية الرحيبة، يقدم قدري شخصية الأب في إطار مختلف عن غيره من آباء السينما. في "النمر الأسود" يقدم لابنه محمد، أحمد زكي، خلاصة المنظومة الأخلاقية الشعبية قبيل سفره إلى أوربا :"مش ها أوصيك تاني يا محمد.. لحم الخنزير حرام ويربي الخوف.. اوعي تقرب منه.. لا هو ولا الخمرة.. الخمرة بتلحس المخ".
قد لا يكون زوجا صالحا، لكنه أب مصري قح، وإنسان مسكون بالمشاعر المعقدة المختلطة التي يقدم من خلال الإمساك بخيوطها دورا لا يُنسى في "الحريف". المشهد الذي يجمعه مع ابنه فارس، عادل إمام، يتضمن دروسا بليغة في الأداء العبقري السلس، وليد الوعي والإدراك. يقول لابنه في عتاب محسوب لا يعرف الإسراف العاطفي الانفعالي :"ما بتزورش أبوك ليه.. نسيته ولا مستعر منه؟".
يقول كلماته هذه وهو يواصل العمل كأنه لا يبالي، ويرفض بإصرار أن يوصف بالعجوز، قبل أن يسأل عن حفيده الذي لا يراه، وإذ يخبره فارس بموت أمه، طليقة القفاص المقترن بزوجة أخرى، يرد وفوق وجهه أطنان من الحيرة :"معاك سيجارة؟"، ثم يعلق مثل فيلسوف يكثف أسرار الوجود في كلمتين :"كلناها نموت".
في المشهد الاستثنائي، يمثل إبراهيم قدري كأنه لا يمثل، ويتحول عادل إمام في حضرته إلى ابن يتعلم الحكمة. ما أعظم إبراهيم وهو يشرب الشاي ويدخن ويشكو مرارة الفقر والعوز بطريقة غير مباشرة، فالمهنة البائسة لا تمنح إلا أقل القليل، والمعاناة التي يكابدها ويتعذب بها قرب نهاية العمر، تدفعه إلى طلب الدعم في تعفف يليق بعباقرة الظل، في الحياة والفن معا.
إبراهيم قدري في طليعة عباقرة الظل، موهوب متمكن يسكن القلوب وينعش الأرواح. لا شعور في حضرته البهية بالغربة والاغتراب، ولا فواصل تحول دون رؤية ما يعتمل في أعماقه.
يشارك في عشرات الأفلام، وتمتد رحلته مع التمثيل لأكثر من ثلث قرن، لكن الأغلبية من مشاهدي السينما لا يعرفون اسمه ولا يميزونه في الأفيشات التي تنشغل بنجوم لا يملك بعضهم عشر معشار موهبة المبدع المجهول.
إنه مصري قح من أولئك الذين تزدحم بهم الشوارع والحارات والقهاوي وعربات المترو والحانات الرخيصة، وتمثيله صادق عفوي كما يليق بأصحاب الموهبة والحضور الطاغي. يحيط به النجوم الأكثر شهرة، لكن العين كثيرا ما تتجه إليه دون غيره، والأذن تصغي إليه مشدوهة إلى النبرة الطيبة المتألمة.
عزيزي إبراهيم.
آمل أن تعرف في عليائك كم أنت جميل محبوب.
دمت بخير دائما.
--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"