لبعض الوجوه سحرها الخاص، لا يمكنك أن تمنع نفسك من الابتسام عندما تراها، على الأقل عند النظرات الأولى، قبل أن تبدأ آليات عقلك النقدية في العمل وتقييم ما تراه على الشاشة، فلو كان جيدًا بلغت المتعة مبلغها، وإن كان متوسطًا ارتكنت على الوجه المحبوب ليزيد العمل لديك قيمة، وإن كان سيئًا كان الوجه وابتسامته يد حانية تهون من متاعبك، وتخبرك أن الكبار أحيانًا ما يخطئون الاختيار.
تبدو هذه مقدمة مثالية لفيلم سيء يلعب بطولته نجم محبوب، غير أن "يوم جميل في الحي" Beautiful Day in the Neighborhood، فيلم المخرجة ماريل هيلر الذي يلعب بطولته النجم توم هانكس، أبعد ما يكون على أن يوصف بالسوء، هو فقط فيلم اعتيادي، كان ليمر مرور الكرام لولا وجود هذا الوجه الساحر الذي منحه جاذبية خاصة بتجسيد شخصية يبدو جليًا حب هانكس لها واستمتاعه بأدائها.
الشخصية هي "مستر روجرز"، مقدم برامج الأطفال التلفزيونية الأمريكي الأشهر، الرجل الهادئ ذو الابتسامة الحانية الذي صنع شهرته من القدرة على الاستماع للأطفال والتواصل معهم وتدريبهم على كيفية النظر للحياة من وجهة نظر صالحة. والذي يُكلف المحرر المشاغب "لويد" ماتيو رييس بعمل حوار بسيط معه ينشر في صورة بورتريه من 400 كلمة في المجلة التي يعمل بها، وسبب الاختيار الوحيد والمعلن هو أن روجرز هو الشخص الوحيد الذي قبل أن يحاوره لويد المعروف بالإساءة في كتاباته لمن يحاورهم!
عن الكاتب وشبحه
يتبدي هنا هوس ماريل هيلر بعوالم الكتابة الصحفية، بعد فيلمها السابق Can You Ever Forgive Me? الذي كانت بطلته كاتبة تراجع نجاحها فاحترفت تزوير مراسلات المشاهير. في المرة السابقة كانت كل رسالة تكتبها البطلة جسم جريمة ينبغي التعامل معه بحذر، ومادة إبداعية تفعل فيها كل ما بوسعها لتقمص شخصية من تكتب بلسانه، أما في هذه المرة فالأمر على النقيض: هذه قطعة غير مهمة، يكتبها لويد لأنها خياره الوحيد، وكل تصوراته عنها أن يجري حوارًا لساعة مع مستر روجرز يكتب منه مقاله وينتهي الأمر. لكن لا يبدو الوضع مع مقدم البرامج العجوز بهذه السهولة.
"روجرز" لا يمثل النقيض لشخصية لويد فحسب، وإنما هو صورة لما فقده الصحفي صغيرًا وتسبب في تشكيل شخصيته الساخرة العنيفة: معنى الأب. فغياب الأب يمثل العقدة الرئيسية في تكوين لويد الذي لا يخفي الفيلم طويلًا علاقته المتوترة بوالده التي تصل حد العراك الجسدي.
أباه رحل عن الأسرة وترك الأم تموت بالسرطان والابناء يقاتلون للعيش، بينما في الوقت ذاته كان روجرز يلعب الدور عينه لأجيال كاملة من الأمريكيين، صار الرجل في حياتهم هو الأب المثالي. علاقة يعبر عنها الفيلم بأكثر الطرق عذوبة عندما يركب الرجلان مترو الأنفاق معًا، فيقرر كل من في المترو أن يأدوا بشكل جماعي أغنية برنامج روجرز تحية لوجوده بينهم.
لويد يبدأ المهمة ليجد نفسه يصطدم بشبح ماضيه. صحيح إنه شبح بالغ التهذيب لا تفارق الابتسامة وجهه ولا يرتفع صوته أو يقول ما يسيء للآخرين، لكنه في النهاية شبح من الماضي، وجوده محمّل بالآلام ونكء الجروح وضرورة إعادة النظر في العلاقة بالأب البيولوجي الذي يظهر هو الآخر ليزيد من متاعب لويد الذي يعيش من جديد مرحلة نضجه، فإذا كان النضج الأول هو الانفصال عن الأب بشكل يمكن للمرء استيعابه، فالكاتب الشاب كان في حاجة لتجربة كهذه كي نقول إنه قد نضج حقًا.
تجربة ستكون نتيجتها هي المقال الذي سيكتبه عن روجرز، المختلف كثيرًا عن المهمة الأصلية التي أوكلت إليه.
عن العادي والاستثنائي
في Can You Ever Forgive Me? جمعت ماريل هيلر بين نص بديع ـ على كلاسيكيته ـ وأداء استثنائي لبطلين رئيسيين كفل لكل منهما ترشيحًا للأوسكار ميليسا مكارثي وريتشارد جرانت، وإخراج أجاد التعامل مع الميزانية المحدودة نسبيًا بالنسبة لفيلم تدور أحداثه في الماضي القريب (التسعينيات التي تدور فيها أحداث الفيلم الجديد أيضًا)، فكانت النتيجة فيلم حقق نجاحًا أكبر بكثير من المنتظر قياسًا لحجمه وأسماء صناعه.
المعادلة اختلفت في "يوم جميل في الحي"، فبالرغم من كونه بالتأكيد خطوة للأعلى بالنسبة لحجم مخرجته في هوليوود، إلا أن كلاسيكية السيناريو الشديدة أفقدت هيلر كثير من الطزاجة التي حملها عملها السابق. صحيح أننا وصفناه أيضًا بالكلاسيكية، لكنها كانت كلاسيكية البناء وتطور الشخصيات، بينما ظل المسار حافلًا بالمفاجآت واللحظات غير المتوقعة. أما في "يوم جميل.." من الصعب أن تجد هذا النوع من مخالفة التوقعات. حكاية محبوكة ومتماسكة ومنفذة بعناية، بها بعض المشاهد المؤثرة، لكنها تظل من البداية للنهاية في إطار السائد والمتوقع من قبل أي مشاهد متمرس لأفلام هوليوود.
يعيدنا هذا لما بدأنا به المقال: وجود توم هانكس بسحره وتأثيره، والذي يدين له الفيلم تقريبًا بتسعة أعشار أي جاذبية يمتلكها. رغم أن شخصية السيد روجرز قد تبدو بعيدة عما يحبه الممثلون عادة من صخب وتناقضات تمكن الممثل من التفاخر بأدواته، الأمر الذي يدركه هانكس جيدًا، فيلعب الشخصية مكرسًا أن صاحبها أيقونة أكثر من كونه بشريًا، مما يجعله حضوره استثنائيًا حتى لو كان الموقف اعتياديًا، شعور يسري سواء على شخصيات الفيلم التي تنبهر برؤية نجم طفولتها، أو المشاهدين الذين يحبون هذا الرجل ويرضيهم حضوره على الشاشة.
"يوم جميل في الحي" كان فيلمًا يعد بالكثير في موسم الجوائز، بناء على أسماء صناعه وموضوعه، إلا أن مستواه بعد أن شاهدناه، ورغم عذوبته وصعوبة الشعور بالملل خلاله، يظل أقل بكثير من أن يثير الضجة كفيلم ماريل هيلر السابق، قد يحضر في جوائز الجولدن جلوب في فئات الأفلام الكوميدية والغنائية، لكن يظل أقصى تكهن يمكن ضربه بخصوص علاقته بالأوسكار أن ينال توم هانكس ترشيحًا لأحسن ممثل مساعد.
اقرأ أيضا
انتقادات حادة ضد داكوتا فانينج لتجسيدها دور مسلمة بيضاء !.. هكذا دافعت عن نفسها
النقاد يصفون فيلم Joker: مخيف ومأساوي ومثير للقلق .. هل تفوق واكين فينيكس على هيث ليدجر؟