لم أكن أحب مشاهدة فيلم "دعاء الكروان" لهنري بركات في طفولتي، الجو المقبض، الفقر الشديد، ثم لماذا تقتل هنادي بهذا الشكل ولا يقتل مهندس الري هذا؟، ثم بدأت في النضوج يومًا بعد أخر، تغيرت نظراتي بالتدريج، فاتن حمامة "حلوة قوي"، يالكِ من ماكرة يا "أمنة"، ليت لكل النساء دهائك، ثم السؤال هل يروض الحب النفوس بهذا الشكل؟، لماذا يقتل المهندس البائس هكذا؟
لا أُعد ما أكتبه تحليلًا للفيلم، إنما أكتب شعوري نحو فيلم من أفلامي المفضلة، أستطيع مشاهدته كلما عُرض ولا أشعر بالملل، في البداية يستطيع المشاهد أن يرى أبطال الفيلم الحقيقين، ليسوا أشخاصًا يتنفسون، ولكنهم جثموا على أنفاس الأشخاص وخنقوهم، "الفقر والجهل"، كانا بطلي العمل عن جدارة، عاشت زهرة (أمينة رزق) مُظللة بجناحها على ابنتيها هنادي (زهرة العلا) و آمنة (فاتن حمامة)، الفتاتان ولدتا لأب نال جزاء هتكه للأعراض وقتل، لتصبح الثلاثة تحت رحمة الخال جابر (عبد العليم خطاب)، الذي لا يحكم مملكته سوى حب المال.
يُصر جابر على الثلاثة أن ينتقلوا إلى بلد أخرى، يُودع "هنادي" لدى مهندس الري (أحمد مظهر)، و"آمنة" لدى المأمور، تعملان كخادمتان، تُسلم "هنادي" نفسها للمهندس هكذا ببساطة بعد المحاولة الأولى منه، وعندما تكشف فضيحتها، يقتلها خالها ويدفنها في الصحراء، وبسؤاله عن هنادي يقول "هنادي راحت في الوبا"، تهرب آمنة بعد محاولة فاشلة من خالها لتزويجها، تعود وتستخدم الحيلة حتى تعمل لدى المهندس وتوقعه في حبها دون أن تسلم نفسها، تزامنًا مع وصول خالها الذي يقصد قتلها، فيفديها المهندس بنفسه.
الحبكة المستوحاة من قصة عميد الأدب العربي طه حسين، ليست السبب الوحيد في تميز الفيلم، ولكن المميز أنه كان طبيعيًا يشبه حبكات الحياة، مستوحى مما حدث بالفعل، لا من وحي خيال كاتب أعاد صياغة الواقع بكلمات تجعل باستطاعة المشاهد أن يتنفس الحوار الدائر على الشاشة، كيف جاءت الدوافع طبيعية إلى هذا الحد، ربما "الخبز" هو كلمة السر.
الخبز والحب
كيف فقدت "هنادي" حياتها ببساطة؟، الإجابة تكمن في كلمة السر، لقمة العيش التي أجبرت فتاة غرة على مجابهة مصير مجهول، الجوع إلى كل شيء، المال والطعام والعاطفة، وكيف استفاد الذئب من هذا الجوع الذي اشتم رائحته منذ دخولها إلى وكره بلا أدنى تخيل منها لأبعاد عاقبة وقوعها في شركه، لتأكل في نهم ما قدمه لها من سم قد دس في الخبز، بنفس ترضى أن تلتهم كل ما حُرمت منه، جراء الجوع والقسوة.
الموسيقى
أبدع أندريه رايدر في إضافة لمساته الساحرة إلى المقطوعات الموسيقية التي عُزفت في الفيلم، ولكن بالنسبة لي كان استخدام موسيقى الطبيعة هو الأجمل، صوت الكروان الذي صاحب "أمنة" في رحلتها طوال الفيلم، كان بمثابة جهاز إنذار تتواصل به الطبيعة معها، لتنذرها طيلة الوقت من الوقوع في نفس مصير "هنادي".
الوعي
لم تكن "آمنة" ساذجة مثل هنادي، على الرغم من أنها الأصغر سنًا، ربما ساعدها القدر بوقوعها في يد عائلة عاملتها بشيء من المودة الحقيقية، خاصة وجود "خديجة" (رجاء الجداوي) ابنة المأمور معها، التي اعتبرتها صديقتها أو أخت لها، فصارت تقص عليها القصص، وتعلمها القراءة، وربما جاءت خدمة القدر تلك في ظاهرها إلى "آمنة"، أما في باطنها رحمة للمهندس.
كيف للحب أن يُطهر النفوس الخبيثة؟
استطاعت "آمنة" بقليل من الوعي الذي اكتسبته من بيت المأمور، وكثير من الحزن الذي كابدته لمفارقة أختها، أن تروض نفس الذئب الذي اعتاد على الأخذ دون عطاء، اعتاد أن يصل إلى مراده من كل من رآهن بسهولة صياد ماهر يحمل في يده الطُعم ويرميه لفريسته الجائعة، لكن "آمنة" استطاعت بكل الكراهية التي تعتمل في نفسها تجاهه، أن تحرمه من تدنيس حرمة بيت المأمور والارتباط بخديجة العفيفة التي لا ذنب لها أن ترتبط بمصير هذا الصياد الجشع، لتصنع بنفسها طُعمًا أشد فتكًا مما يملكه هو، استخدمت دهائها، ولكنها نسيت أن كل هذه الكراهية لا تستطيع أن تسكن قلب بريء مثل قلب "آمنة"، وبعد أن وقع لها اكتشفت أنها وقعت بدورها، لكن هذه المرة جاء وقوعهما طاهرًا، تطهر به المهندس من دناءة نفسه التي عافت جميع النساء عدا "آمنة" التي أضائته، وتطهرت هي من خطيئة الكراهية، إلا أنها انكفأت تلوم نفسها على وقوعها في حب من قتل "هنادي"، ليريحهما القدر من وطأة التعذيب ويلاقي المهندس نفس مصير ضحاياه، ولكنه يلاقيهم بعد أن ألقى بأثقال روحه جانبًا وتحرر بالحب الطاهر من كل خطيئة.
تتفق أو تختلف مع النهاية، فهي نهاية منطقية أن لا يهنأ الذئب بحياته بعد كل هذا الظلم، وعلى الجانب الأخر فهناك دائمًا ضوء للرجوع، فالإنسان قد يحمل بين جنباته قلبًا مليئًا بالشرور، ولكنه أيضًا لابد أن يحمل ولو بذرة من الخير، قد تساعده الظروف على الظلم والتجبر، إلا أن هذه البذرة الطيبة لو وجدت ما يحييها ستنبت نبتة حسنة، قد لا يمهلها الوقت طويلًا لتصبح شجرة مثمرة، لكنها كافية لتطهيره من كل ما فات وسبق.