في عام 1957، وتحديدًا في سينما دمشق، كانت الفتاة وردة محمد فتوكي (ذات الـ 18 عامًا) تشاهد فيلم "الوسادة الخالية" للعندليب عبد الحليم حافظ، وبمجرد سماعها لأغنية "تخونوه" بالفيلم انبهرت بها، وصارت تدخل الفيلم أكثر من مرة لتستمع للأغنية فقط، وبدلا من أن تنبهر بالمطرب انبهرت بالملحن، وأقسمت أنها ستقابله ذات يوم، بل ويلحن لها إحدى الأغنيات.
دارت الأيام، وكان اللقاء الأول بين الفنانة وردة والملحن بليغ حمدي في منزل الفنان محمد فوزي بعد وصولها إلى مصر لأول مرة في بداية الستينيات، وأعجب "بليغ" بصوتها وشخصيتها، واتفقا أن يلحن لها أغنية، وحين ذهب لتحفيظها أول لحن، عاد لصديقه وجدي الحكيم وأخبره أنه لأول مرة يهتز حين يرى امرأة، عندما سلّم على وردة.
لحّن بليغ لوردة أغنية "أحبك فوق ما تتصور"، والتي كانت التعاون الفني الأول بينهما، وخلال تلك الفترة أغرم بها وكانت قصة الحب في طريقها للزواج لولا اعتراض الأهل، لدرجة أن والدها رفض حتى استقباله بالمنزل، وزوَّجها من ضابط جزائري، والذي رفض بدوره عملها في الغناء، فابتعدت عن الفن وظلت بالمنزل، وأنجبت منه ولدًا وبنتًا.
لم ينس "بليغ" محبوبته طوال تلك السنوات، وازداد شغفه بها مع مرور الوقت، فكان يعبر عن أشواقه لها في ألحانه وكان يوجه بها رسائل غير مباشرة إليها، وقيل إن كوكب الشرق أم كلثوم لاحظت ذلك، وقالت له ذات مرة: "أنا كوبري بينك وبين اللي بتحبها!!"، في إشارة منها إلى ألحانه لها "سيرة الحب"، و"بعيد عنك"، و"الحب كله" وغيرهم.
بعد مرور نحو 10 سنوات، حدث اللقاء بين وردة وبليغ في الاحتفال بعيد استقلال الجزائر، فأمسك بليغ بالعود وأتته فكرة أغنية "العيون السود"، التي كان قد كتب عددًا من أبياتها وقتها، وبعد مرور عام ونصف عادت وردة إلى مصر بعد انفصالها عن زوجها، لتغني "العيون السود" عام 1972، والتي أكمل كتابتها الشاعر محمد حمزة بأفكار بليغ، حيث جسّد فيها قصة حبهما، لتكون بمثابة أغنية العودة لما كان بينهما.
أجواء الحب زادت بين وردة وبليغ، وتتابعت ألحانه لها، والتي كانت تحقق نجاحات باهرة، لما فيها من انسجام قوي مع الأداء، وكأن كل منهما يستلهم شيئًا من الأخر، ثم قررا الزواج. وفي واقعة طريفة تثبت مدى انسجام "بليغ" في حياته الفنية، فقد نسي أن يذهب لأسرتها ليطلب يدها بعدما حدد موعدًا معهم، وانفعلت وردة وقتها وظنّت أن هرب كما يحدث في الأفلام، إلا أنه كان قد نسي الموعد أصلا وسافر للخارج، وبعدها عاد واعتذر لها، وتحقق حلمه بالزواج منها.
كان بليغ ووردة زوجين هائمين ببعضهما البعض، فطوال فترة زواجهما كان يستقيظ مبكرًا ويضع لها وردة بجوار سريرها يوميًا، حتى تكون أول شيء تراه في الصباح، وهو ما روته وردة كثيرًا في لقاءاتها التليفزيونية بقولها: "كنت بقوله لو كان وفّرت تمن الورد ده كنت بقيت مليونير".
وكان وهج الحب بينهما واضح أمام الجمهور أيضًا، إذ قبّلها أكثر من مرة على المسرح وأمام الكاميرات، وفي إحدى المرات كان قد عاد من سفره للتو، وفوجئت بأنه موجود خلال الحفل فطلبت من الصعود للمسرح واحتضنته وقبّلته، ثم أوضحت للجمهور أنها لم تره منذ شهر لذلك لم تصبر على رؤيته، فضجت القاعة بالتصفيق لهما.
بمرور الوقت بدأ وهج الحب يخبو بسبب جنون بليغ بالفن، وانشغاله به طوال الوقت وسفره كثيرًا وتواجده خارج المنزل أغلب الوقت، فكان منشغلًا بحياته الفنية عن حياته الزوجية. كما طاردته الشائعات تجاه بعض الفنانات، وهو ما رفضته وردة، خاصة وأنه من المعروف عنها غيرتها الشديدة عليه، فحدث الانفصال بينهما بعد 7 سنوات من الزواج، وأرسل لها مع ورقة الطلاق خطابًا كتب فيه بخط يده: "وردة حبيبتي.. قتلتيني.. جرحتيني.. بودعك وبودع الدنيا معك".
ورغم الطلاق، إلا أن علاقة الصداقة بينهما ظلت مستمرة، ولحّن لها أغنية "من بين ألوف" عام 1984. كما وقفت إلى جانبه عند تعرّضه لأزمته الشهيرة التي كاد أن يدخل السجن بسببها، عقب انتحار الفنانة سميرة مليان من شرفة منزله خلال إحدى التجمعات الفنية التي كان بها العديد من نجوم الغناء في مصر والوطن العربي، إذ لم يتحمل الاستجوابات الطويلة وكان يخشى أن يلقى به في السجن، فترك مصر وسافر للخارج.
أراد بليغ العودة لمصر لكنه كان يخشى أن يدخل السجن، وكانت وردة متعاطفة معه للغاية في هذه القضية، فزارت زكي بدر وزير الداخلية وقتها في مكتبه، وقالت له: "أنا ليا طلب واحد بس.. متحبسوش بليغ"، فضحك زكي بدر وأكد لها أنه إذا عاد لمصر وحضر جلسة المحاكمة فسيخرج براءة، فاتصلت وردة ببليغ وألحّت عليه لكي يعود، وبالفعل حضر الجلسة وحصل على البراءة عام 1989.
كانت وردة تتحدث عن بليغ في حواراتها ولقاءاتها حتى بعد وفاته، قائلة: "أخدت كتير من بليغ.. أخدت منه النجاح والسند.. وكان حماية ليا. انفصلنا لأنه مجنون بالفن وحسيت إني مش هقدر اعيش معاه كده، لكن منكرش إنه اداني أحلى الحاجات عنده.. يمكن لو كنت عرفته بنفس القدر اللي عرفته بيه بعد ما انفصلنا والصداقة اللي حصلت بينا يمكن كنا فهمنا بعض أكتر ومكنتش انفصلت عنه.. وقوفي جنبه في محنه خلاني فهمته أكتر.. لأني عمري ما سبته في أي محنة أبدًا".
لكن قبل وفاته بعامين، وعقب عودته إلى مصر من إحدى الدول عام 1991، توجه برفقة وردة إلى ستوديو 32 بمبنى إذاعة القاهرة، لتسجيل أغنية "بودعك" والتي كانت أولى كلماتها قد أرسلها لها في خطابه وقت الطلاق. ووقفت وردة أمام الميكرفون لتغني، فتأثرت وبكى بليغ في صمت إلى جوارها..
بودعك وبودع الدنيا معك
جرحتني قتلتني
غفرت لك قسوتك
بودعك من غير سلام
ولا ملام ولا كلمة مني تجرحك
أنا .. أنا .. أنا أجرحك !
بسم الآلام ارحل أوام
حبي الكبير هيحرسك في سكتك
بودعك