إذا ما فكرنا في الأمر سنجده تحديًا كبيرًا أن يُقدم مخرج مثل الإسباني بيدرو ألمودوفار على تقديم فيلم سيرة ذاتية؛ فإذا كانت أفلام السير تأتي في اللحظات التي يُقرر فيها الفنانون الكشف عن دواخلهم والإفصاح عن جوانب لا يعرفها الجمهور عنهم، فإن ألمودوفار هو أحد أكثر سينمائيي العالم جرأة ومكاشفة، وعلى مدار أفلامه العشرين السابقة عرض تباعًا كل الحقائق عن حياته: مثليته وهوسه بملابس النساء وعلاقته بوالدته وكل الأمور التي قد يعد الكشف عن أحدها فضيحة لدى البعض. فما الذي يُمكن أن يعرضه ألمودوفار عن نفسه في "ألم ومجد Pain and Glory"، فيلمه الجديد الذي يتنافس حاليًا في مسابقة مهرجان كان الدولية.
الحل يأتي عبر اختيار السؤال الدقيق كي يُطرح: ما الذي يعنيه أن تكون مخرجًا مثل ألمودوفار في وقتنا الحالي؟ أن تكون السنوات والمتاعب الصحية كفيلة بمنع الفنان عن العمل، أن يتصالح مع أعماله القديمة التي لم يكن راضيًا عنها وقت عرضها لكنه عاجز أن يُقدم جديدًا يمثالها (تذكر ما قيل عن أفلامه الأخيرة بأن ألمودوفار يُقلد أسلوب ألمودوفار)، وأن تداهمه هواجس الماضي في أكثر أوقات حياته هشاشةً.
المخرج والممثل والحبيب
سلفادور مالو (أنطونيو بانديراس) مخرج شهير متوقف عن العمل لأسباب صحية؛ فجسده يجمع قائمة أمراض يكفي كل منها لتحويل حياته جحيمًا. تطارده ذكريات طفولته وانتقاله مع والدته (من غير بينيلوبي كروز؟) للعيش في منزل أقرب للكهف. يقرر السينمانيك الإسباني تنظيم عرضًا استعاديًا لنسخة مرممة من فيلمه الأهم، غير أن المشكلة الأكبر هي أنه لم يكن راضيًا عن الفيلم وقت عرضه، لدرجة أنه حرم بطل الفيلم من حضوره، وقاطعه بعدها لـ32 عامًا، قبل أن يدق بابه طالبًا منه أن يصاحبه في عرض الفيلم، ويقرر خلال وجوده في منزل الممثل ألبرتو (آسير إتشنديا) أن يُجرب الهيروين للمرة الأولى، لتنشّط المخدرات المزيد من تداخل الماضي والحاضر داخل عقله.
بأستاذية مشهودة يمارس ألمودوفار لعبته المفضلة بنجاح لم يبلغه منذ عدة أفلام: الوقوف على حافة الميلودراما. الإسباني المتلاعب يُلمّح بالأزمة فيُحرّك التوقعات، ثم يعود ليغير مساره. يوحي بأن ولوج المخرج عالم المخدرات سيكون موضوعه، ثم يتحرك صوب جهة أخرى من حياة سلفادور. يفعلها مرة ثانية مع الممثل، وثالثة مع الأم، ورابعة مع العامل الأمّي الذي اكتشف من خلاله في طفولته انجذابه لأجساد الرجال. كل خط من هذا يصلح بصورة مجردة أن يكون فيلمًا ذا طابع "تيلي ـ نوفيلي"، لكنها هنا ضربات فرشاة، مشبعة بالألوان الدافئة كالمعتاد، يرسم بها ألمودوفار لوحة عن حالته النفسية وعلاقة ماضيه بها.
المزج بين الأشكال أيضًا أحد ألاعيب الرجل الأثيرة، وهنا يوظف أكثر من شكل على مدار الفيلم لكن الأهم هو المونودراما، عبر نصّ بعنوان "إدمان" كتبه سلفادور وصمم الممثل ألبرتو أن يقوم بأداءه على خشبة المسرح. نص يروي الانفصال الاضطراري الذي خاصه البطل عن حبيب وقع في فخ إدمان المخدرات، لتكون المفارقة أن يتم تجسيد هذا النص تحديدًا في الوقت الذي ينزلق سلفادور نحو المخدرات التي ظل بعيدًا عنها طوال حياته، ليكون الأداء ـ وبمحض الصدفة ـ جسرًا للقاء آخر من الماضي، لقاء بالحبيب موضوع النص. لاحظ هنا قدر الميلودرامية في الأمرين: مفارقة النص/ الإدمان وكيفية ترتيب اللقاء، لكنها مجددًا مهارة مغازلة الميلودراما على طريقة الألمودوفارية.
الإمساك بالظل
يعرض المخرج الكبير نفسه علينا دون خجل، يكشف عن معاناة كبيرة وشعور بالخواء يحمل في طياته رؤية عبثية للعالم، هذا رجل عاش حياة مليئة بالدراما من نعومة أظافره، امتهن فن الحكي وامتلك ناصيته، نجح وصنع تاريخًا سينمائيًا، لكنه يعيش بعد كل هذا بلا هدف، أقرب للتعاسة منه للسعادة، بعد يوم اكتشف فيه "أن حالة عموده الفقري ستكون أهم ما في السنوات الباقية في حياته".
هذه الرؤية لم يكن من الممكن ان تجد أفضل من أنطونيو بانديراس لتجسيدها، وأفضل ما في أداء بانديراس الذي يجمعه تعاون فني ممتد بالمخرج هو إنه لم يحاول أن يكون نسخة من ألمودوفار، لا مجال هنا للتشخيص الكاريكاتوري، وكأنه إثبات للدعابة التي زرعها المخرج في بوستر الفيلم الذي يمتلك بانديراس فيه ظل ألمودوفار. بانديراس لا يُشخص صديقه وإنما يحاول الإمساك بظله، بما هو خافت وكامن خلف رجل لازم الصخب مسيرته على الشاشة وخلفها. أداء بانديراس يرشحه بقوة لنيل جائزة التمثيل، إن لم ترغب لجنة أليخاندرو جونزاليس إيناريتو بمنح الفيلم ما هو أكبر.
بعد أكثر من تعثر، وعدد من الأفلام الاعتيادية من فنان لم يكن أبدًا اعتياديًا، "ألم ومجد" عودة كبيرة لأحد أساتذة السينما العالمية. عمل يعيد الأمور لنصابها ويضع بيدرو ألمودوفار على رأس المرشحين لسعفة كان الذهبية حتى لحظتنا هذه، السعفة التي لم يسبق له حملها، فهل يكون الاعتراف بالألم وسيلته لبلوغ المجد؟