على استحياء ذهبت لحضور المناقشة المفتوحة مع الممثل الأمريكي صامويل ل. جاكسون ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي الثالث عشر، فالعادة هي أن حضور النجوم الأمريكيين يأتي احتفائياً خالياً من الصدق، لاسيما إذا ما كان أمام ما يزيد عن خمسمائة شخص كثير منهم حضر فقط ليرى جاكسون عن قرب بغض النظر عما يقوله. المُثير أن الممثل المخضرم بدا أكثر انفتاحاً حتى من الحضور، راغباً في الحديث بحميمية عن حياته ومسيرته الفنية، عن علاقاته بالمخرجين وآراءه في رجال السياسة. حديث طويل امتد لأكثر من ساعة، اخترنا أهم ما فيه لينقله "في الفن" لمن لم تسنح له فرصة حضور هذا اللقاء الممتع.
البدايات
انفصل والداي قبل أن أعي ما حولي، أبي هجرنا وكانت أمي تعمل في واشنطون بينما عشت أنا في مدينة صغيرة في تينيسي مع جدتي وجدي وخالتي. خالتي معلمة تدرس الفنون الإدائية، مما جعلني أعيش أجواء الأزياء وتدريبات الأداء وإلقاء الخطب التي كانت خالتي تشرف عليها. كل ما أذكره من هذه الفترة هو إعجابي بصوت التصفيق في نهاية العرض. لم أختر أن أكون ممثلاً، ظننت أن بإمكاني أن أصير طبيباً أو معلماً. كنت أحب مشاهدة الأفلام في السينما طيلة العطلة لكن لم يرد في ذهني أن تكون هي مهنتي.
في العام الأول بالجامعة التحقت بدرس الخطابة Public speaking، لينصح أستاذه الطلبة بالمشاركة في إحدى المسرحيات، ومن وقتها لم أتوقف عن التمثيل. وجدت لأول مرة في حياتي نشاطاً أريد أن أمارسه يومياً، أدخل للنوم وأنا أحلم بالصباح كي أقابل زملائي لنعمل على المسرحية. قبلها عندما كنت أمارس الكثير من الأنشطة كانوا يقولون لي أنني في النهاية سأمتلك وظيفة واحدة فلا يوجد من يعمل في كل الوظائف. الآن أملك رفاهية أن أفعل كل شيء على الشاشة، وبعضهم يخبرني أنني شاركت تقريباً في كل فيلم أمريكي صدر منذ بدأت العمل!
المخدرات والتمثيل
بالطبع حلم جميع الممثلين أن يصيروا نجوماً في هوليوود. عشت لحظة أعتقد فيها أن هناك طريقاً معروفاً لذلك: عليك أن تمثل في المسرح، ثم تنتقل لمسلسل من المسلسلات الطويلة soap opera، ومنها لمسلسل كبير ثم إلى السينما. لم أكن أنتبه أن بإمكانك أن تذهب لتجربة أداء فتنال دوراً يغير حياتك؛ لذا كنت أعتبر نفسي وسط عملية الصعود. كنت أعتبر أن مكاني في النجومية محجوز ولا ينقصني سوى الوقت، القناعة التي زادها المجموعة التي كانت محيطة بي، كانت المجموعة تضم مورجان فريمان ودينزل واشنطون وألفري وودارد وروبرت كرستيان وويسلي سنايبس. كل فترة كان واحداً من المجموعة يجد فرصته ويتجه إلى هوليوود، حتى أن دينزل واشنطون كان قد أصبح نجماً سينمائياً لكن يعود من حين لآخر كي يشارك في مسرحية معنا.
منحني هذا اطمئناناً بأنني على الطريق الصحيح، خصوصاً مع مشاركتي في مسرحيات ناجحة مثل "درس البيانو The Piano Lesson". في ذلك الوقت وفي عالم نيويورك المسرحي كانت سمة العصر هي العلاقة بين التمثيل والكوكايين، الكل في عالم المسرح كان يتحدث عن أساطير التمثيل، عن انخراطهم في الشراب والمخدرات والنساء وأنهم رغم ذلك يقومون بعملهم على الوجه الأمثل، لدرجة أنني آمنت أن هذا جزء من تقاليد التمثيل، خضت تجربة المخدرات لحد الإدمان، لدرجة أنني فقدت وجودي على المسرح ومنحوا دوري في "درس البيانو" لتشارليز دوتون. كنت أشاهده على المسرح كل ليلة وأقول لنفسي أن بإمكاني لعب الدور أفضل منه، فأغضب وأتعاطى المزيد من الكوكايين، حتى انتهي بي الأمر ملقى داخل مصحة للعلاج.
داخل المصحة أتصل بي سبايك لي وعرض علي دوراً في فيلم "حمى الأدغال Jungle Fever". قال لي أنه دور مدمن للمخدرات فمزحت بأن علي أن أقوم بالبحث كي أعرف كيف يتصرف المدمنون! صورت الفيلم بعد أسبوعين من مغادرة المصحة، لم أحتج حتى أن أضع الماكياج فقد كان مظهري الرث يكفي. الدور كان مكتوباً بشكل رائع، وتناقشت مع سبايك أنه لا يجب أن يظهر كمدمني الأفلام في حالة انتشاء، بل كشخص يستغل أسرته وعلاقته بأهله للحصول على المال، أن يظهر طيلة الوقت وهو في حاجة للجرعة التالية.
أزعم أن هذه الزاوية هي ما جعلت الآلاف ممن فقدوا ابنا أو صديقاً أو قريباً يجدون في الدور ما يمسهم، في وقت كانت جميع الأسر الأمريكية السوداء تقريباً قد عانت من إدمان أحد أفرادها. نجح الفيلم نجاحاً كبيراً، وعندما ذهبنا لعرضه في مهرجان كان قوبل باحتفاء لدرجة أن لجنة التحكيم اخترعت جائزة لم ولن تسلم إلا في هذا العام هي جائزة أحسن ممثل مساعد كي يمنحوني إياها.
خلال هذا النجاح لم أكن أفكر إلا في شيء واحد هو أن هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي أمثل فيها سواء للسينما أو المسرح أو التلفزيون ودمائي خالية تماماً من المخدر، لكني رغم هذا أديت الدور بشكل جيد وتماهيت مع الشخصية دون حاجة للغياب عن الوعي.
جعلتني الفترة أدرك أن بإمكاني أن أفعلها على طريقتي، أن استفيد من هويتي وذاكرتي وكل ما تعلمته في الحياة، وأصيغ كل هذا في شخصية يمكن للجمهور أن يتعاطف معها. منحني هذا شعوراً بالانتشاء يفوق أي مخدر، منحني أماناً من الخوف من فكرة ألا أستطيع الأداء دون مواد في دمائي، ألا أكون محبوباً خفيف الظل لمن حولي. جعلتني الفترة أكثر رغبة في أن أمارس ما أحب، ووهبتني وضوحاً في كيفية القيام بذلك.
الخطوة الأهم
قمت بتجربة أداء لأحد أدوار "كلاب المستودع Reservoir Dogs". كان من المفترض أن أقرأ النص مع تيم روث وهارفي كيتيل، لكني عندما وصلت لم أجدهما ووجدت بدلاً منهما رجلين لا أعرفهما. قمت بالأداء وخرجت غاضباً من هذين الفاشلين اللذين أفسدا الأمر بسوء أدائهما وأضاعا عليّ الدور. لاحقا اكتشفت أن أحدهما هو كوينتن تارانتينو نفسه!
كنت حاضراً عندما عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان صن دانس وذهبت بعده لأهنئ تارانتينو وأخبره عن إعجابي بالفيلم، وجدته يسألني: ما رأيك في الممثل الذي أخذ دورك؟ أخبرته بصراحة أنه سيئ وأنني كنت لألعب الدور أفضل منه، فرد سريعاً بأنه يصنع فيلماً جديداً ولديه دور كتبه خصيصاً لي. أرسل لي سيناريو "خيال رخيص Pulp Fiction" في مظروف بني مرسوم عليه اثنان من رجال العصابات وصورة لداني دافيتو وعليها تعليق أنني لو جعلت شخصاً آخر يطلع على السيناريو سيرسل من يقتلني.
عندما أنهيت قراءة السيناريو جلست أفكر في روعة ما فيه، هذا فيلم أعلم جيداً أنني وكل أصدقائي سنحب مشاهدته. أحببت دور جولز وبدأت استعد له، لتفاجئني أخبار بأن كوينتن قام بتجربة أداء لممثل آخر على نفس الدور. اتصلت به فقال لي إنه بالفعل كتب الدور لي لكن الممثل الآخر رائع، وطلب مني أن آتي لأقوم بتجربة أداء كي يقارن ويختار. كنت في نيويورك أصور فيلماً فأخذت الطائرة عائداً إلى لوس أنجلوس، وفي الطريق أخذت أراجع الشخصية وحوارها وعلاقاتها بباقي الشخصيات، وداخلي غضب أني أقوم بذلك لشخصية من المفترض أنها قد كُتبت كي ألعبها.
وصلت لمكتب تارانتينو وكلي حماس للبدء فلم أجد أحد، كانوا يتناولون الغذاء. عادوا فصافحني كوينتن وعرفني بأحدهم وبدأ الحديث بهدوء، فما كان مني إلا أن صحت فيه كي نبدأ التجربة. استجاب وأحضر شاباً كي يقرأ الحوار معي فأخطأ الشاب خلال قراءته لأجد نفسي أسبه هو الآخر وأطالبه أن يقرأ بشكل سليم. أنهيت التجربة وأنا غاضب مما أثر بالتأكيد على طريقة أدائي. أخذت الطائرة عائداً لتصوير الفيلم في نيويورك ليأتيني اتصال بأن تارانتينو اكتشف لأول مرة من خلال طريقة حديثي في التجربة الصورة الذي يجب أن يكون عليها شكل الحوار في الفيلم.
ذهب الفيلم أيضاً لكان وحصل على السعفة الذهبية، ويمكنني الآن أن أقول أنه العمل المسيطر على حياتي، لا يكاد يوم يمر دون أن أقابل شخصاً يمزح معي بترديد أحد الجمل الحوارية في الفيلم. أكاد أمتلك من 5 إلى 10 مليون محب جديد كل عام، كثير منهم شباب يقرأون عن الفيلم أو يسمعون عنه من أحد الكبار وعندما يشاهدونه يصير فيلمهم المفضل. يحلم الممثلون بأن يتذكر الجمهور جملة واحدة لهم لكنني أمتلك دستة من الجمل بسبب هذا الفيلم، وهذه مكافأة رائعة لأي ممثل.
علاقته بأهم مخرجين في مسيرته
العمل مع سبايك لي أشبه بالمعسكرات الصيفية، تجده فجأة يصيح "سام.. قم بالتمثيل!" ويتركني لأقوم بعملي. سبايك يكتب سيناريوهات رائعة لكني أعتبره محظوظاً بامتلاكه مجموعة دائمة من الممثلين الذين اعتادوا العمل معاً منذ سنوات في المسرح. لذلك عندما يضعنا للعمل في فيلم نقوم بيننا بتصحيح أي خطأ. يجلبنا معاً ويقف أمام الكاميرا ليمنحنا فرصة كي نثمر بالعمل معاً، وهذا ذكاء كبير منه.
يجمعني بتارانتينو حبنا لأفلام هونج كونج، في مرة جلست معه وسألته: كم شخصاً يعرف أن "كلاب المستودع" هو إعادة لفيلم "مدينة مشتعلة City on Fire"؟ رد صائحاً: لا إنه ليس كذلك، فضحكت وأنا أقول له أنه يعلم أنه كذلك لكنها ليست مشكلة. بإمكاني أن أتحدث مع كوينتن للأبد عن أفلام هونج كونج، نضحك ونتناقش حتى في السيناريوهات التي يجعلني أقرأها مبكراً كي يستشيرني. لكن أهم ما في العمل معه هو حبه للبروفات، أنا آت من خلفية مسرحية لذلك استمتع بذلك. قبل "خيال رخيص" قمنا ببروفات لما لا يقل عن شهر، وكذلك في "جاكي براون" و"جانجو طليقاً" و"الثمانية البغضاء". البروفات تمنحنا فرصة لتصحيح جمل الحوار وضبط الأداء وكل شيء آخر.
كوينتن يمتلك أيضاً أكثر موقع تصوير إبداعي يمكن العمل فيه. لا أجهزة تعمل في موقع التصوير سوى الكاميرا؛ لذا عندما ينتهي تصوير اللقطة لا تجد كل شخص يفحص هاتفه المحمول، بل نتحدث سوياً عن العمل. مهندس الصوت يقوم بوضع موسيقى متنوعة من الأوبرا حتى الموسيقى الشعبية وكلها يحبها كوينتن، الذي يحب أيضاً أن يروي حكايات. إنه أكثر عقل سينمائي موسوعي قابلته في حياتي، يحدثك طيلة الوقت عن جمل حوار ولقطات سرقها من أفلام قديمة ويخبرك بهذا علانية. إنه الشخص الذي يبقى كل من يعمل معه مستمتعاً ومستفيداً طيلة الوقت.
وفي النهاية: كيف يختار أدواره
بعض الأفلام التي أعمل فيها تناقش قضايا مهمة لكني لا أختارها على هذا الأساس. أؤمن أن صناع الأفلام التسجيلية هم الأجدر بعرض تاريخنا ومناقشة قضايا الواقع وربما صناعة أفلام ذات رسالة. لكن ما أرى نفسي عليه هو رجل يعطي الناس فرصة للخروج لمدة ساعتين من مشكلات الواقع اليومي، ساعتين يخوضون خلالها رحلة فيها الضحك والتأثر وربما بعض التفكير. السينما هي إمتاع قد يكون أحياناً هادفاً وأحياناً بلا هدف، لكن الأهم أن يظل ممتعاً.