في معظم المهرجانات يكون اليوم الثاني هو أهدأ أيام المهرجان، يخصص عادة لعروض وفعاليات أهدأ بعد صخب الافتتاح استعداداً لما هو أهم في الأيام التالي. غير إنه مهرجاناً بحجم دبي السينمائي الدولي لا يملك رفاهية امتلاك ولو يوم واحد هادئ أو خالٍ من الفعاليات الكبيرة، وهو ما لمسناه في ثاني أيام المهرجان أمس الخميس 8 ديسمبر.
الأفلام الجيدة والجديدة لا تتوقف، وتُعرض بالتزامن في أثنتي عشرة قاعة بما يضع الجميع في حيرة اختيار أنسب الأفلام للمشاهدة. محبي الأفلام الهندية كان موعدهم مع العرض العالمي الأول لفيلم جديد بعنوان "بيفيكر Befikre" بحضور أبطاله.
مسابقة المهر الطويل افتتحت عروضها بأربعة أفلام كان أبرزهم "يا عمري" للبناني هادي زكاك، رحلة عمرها عشرين عاماً من تصوير جدته من وقت كان عمرها 84 عاماً حتى وفاتها وقد بلغت 104 أعوام. فيلم يبدو من بعيد شخصي للغاية لكن مشاهدته المتعمقة توضح كيف تمكن زكاك من ربط الخاص بالعام، لتصير حكاية الجدة التي شهدت كل أحداث القرن الجسام ثم تحللت ذاكرتها لتعيد اتكشاف العالم في كل لحظة، تصير بشكل ما معادلاً للحياة بأكملها، الحياة التي نظن أن بعض لحظاتها تملك من القيمة ما يجعلها خالدة رغم خطأ وعبثية هذا الافتراض.
ثلاثة أفلام مصرية
اليوم شهد أيضاً عرض ثلاثة أفلام مصرية من أصل عشر أفلام تشارك في برامج المهرجان الرسمية. في قسم ليال عربية عُرض فيلم يسري نصر الله "الماء والخضرة والوجه الحسن" الذي سبق وحللناه بالتفصيل عند عرضه في مهرجان لوكارنو، وكذلك فيلم كاملة أبو ذكري "يوم للستات" الذي كان قبل أيام هو فيلم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي.
أما في مسابقة المهر الطويل فقد عُرض الفيلم الأول من بين خمسة أفلام مصرية مشاركة "جان دارك مصرية" تسجيلي للمخرجة إيمان كامل تحاول فيه ربط تجارب عدة فتيات مصريات تمكنت كل منهن أن تصير بشكل ما تجلياً مصرياً لثورية جان دارك. الفيلم به حس تجريبي واضح على المستوى الشكلي، لكن يبقى مضمونه المكرر الذي يربط حرية المرأة المصرية بتجارب فنانات وسط البلد الأسرية والمهنية هو المشكلة الكبرى التي أحبطت كل محاولات المخرجة السردية.
لحظة بداية السينما على شاشة دبي
أكثر عروض اليوم فرادة وأقربها للقلب كان عرض بعنوان "لوميير! Lumiere!"، عبارة عن فيلم طويل مدته 80 دقيقة، لكنه في حقيقة الأمر مكوّن من 98 شريطاً قصيراً صورها مخترعا كاميرا السينماتوغراف الأخوان لوميير في الفترة بين 1895 و1905، ولكن بنسخ تم ترميمها وإيصاله لجودة 4K أكبر جودة ممكنة حالياً في عالم السينما.
القائم على ترميم الأفلام وجمعها وتصنيفها وترتيبها في فصول هو تيري فريمو المدير الفني لمهرجان كان السينمائي ومدير معهد لوميير، والذي كان وجوده مساوياً في قيمته وإمتاعه للأفلام نفسها؛ وذلك بعدما قام ـ على طريقة بدايات السينما ـ بالتعليق الصوتي الحي على الشرائط المعروضة، ليقوم بوصفها وتوضيح قيمة كل منها بل وإلقاء بعض النكات حولها خلال العرض الذي شهد تجاوباً كبيراً من قبل الحضور.
المدخل الرئيسي لعرض "لوميير!" حسب وصف فريمو كان التأكيد على أن الأخوين لوميير لم يكونا مجرد مخترعين، وإنما كانا أيضاً فناني صورة يملكان حساً فنياً واضحاً في طريقة تصوير كل فيلم قاما بصنعه. وفي كل شريط تبرز قيمتان لا تنفصلان: أهمية الموضوع الذي يصوره الشريط وجمالية شكل تصوير هذا الموضوع، ليؤكد ما نراه في الشرائط الثمانية والتسعين على أن مخترعا الكاميرا كانا أيضاً أول من أسس لتوظيف قواعد التكوين والحركة داخل الكادر وحركة الكاميرا وغيرها من الأمور التي صارت لاحقاً بديهية في اللغة السينمائية.
محاضرة ثرية لمخرج "سينا" و"آمي"
ننهي الفعاليات الممتعة التي شهدها اليوم الثاني للمهرجان بمناقشة مفتوحة مع المخرج البريطاني أسيف كباديا، أحد أهم صانعي الأفلام التسجيلية في العالم والذي عرفناه من فيلميه البديعين "سينا Senna" و"آمي Amy"، وكلاهما مرثية لموهوب فقده العالم مبكراً متسابق الفورميولا وان البرازيلي آيرتون سينا والمغنية الشهيرة آمي واينهاوس.
في المناقشة أو المحاضرة التي أدارها الناقد الأمريكي جاي فيسبرج من مجلة فارايتي تمكن كاباديا من تقديم نظرة عامة عن علاقته بالسينما عموماً وبالفيلم التسجيلي خصوصاً، وبالتحديد النوع الذي يقدمه والمعتمد على جهد بحثي موسع وعلاقة فنية وطيدة مع المونتير الشريك في رسم حياة كاملة على الشاشة لشخص لم يقابله المخرج ولو مرة في حياته.
كاباديا أوضح الفارق بين تعامله مع الأرشيف المتاح في فيلميه الشهيرين، ففي "سينا" كفلت طبيعة حياة ومهنة البطل وجود المشاهد الأهم في مسيرته مصورة من عشرات الزوايا (سباقات السيارات) بما منح المخرج حرية في بناء مشاهده وكأنها في فيلم روائي.
أما في "آمي" فساعده البحث على إيجاد مواد مصورة لآمي ابنة الطبقة المتوسطة منذ بداية حياتها، لتتطور علاقة الكاميرا الراصدة/ المشاهد من عين الصديقة التي تصور أحلام فتاة تريد أن تصير مغنية، إلى عين الصديق المبهور بوجوده مع النجمة الصاعدة، وصولاً إلى عين كاميرا الباباراتزي المتسللة لحياة نجمة كانت أرق من أن تحتمل جموح نفسها وعالمها لتفارقه مبكراً.
خلال المحاضرة قام أسيف كباديا بعرض فيديو تشويقي عن فيلمه الجديد الذي يقوم بإنجازه حول نجم الكرة التاريخي دييجو أرماندو مارادونا، ليتغير مسار النقاش بمجرد عرض الفيديو إلى رغبة عارمة من الحضور لمعرفة المزيد عن المشروع الجديد، وعن كيفية التعامل للمرة الأولى من شخصية لا تزال على قيد الحياة، وتحديداً شخصية تمتلك من الزخم والتناقضات والأحداث مثل مارادونا. كاباديا اكتفى بالتلميح لإجابات قال إنه لا يزال لا يعرف بعضها حتى الآن، لكنه لم يترك القاعة إلا وقد زرع في نفوس الجميع ترقباً لمشاهدة حياة مارادونا من عيني صانع أفلام البورتريه الأمهر في العالم.
اقرأ أيضا
خاص- رسالة دبي السينمائي (1): "الآنسة سلون".. افتتاح يغازل الأوسكار مجدداً