كعادتها لا تبخل أيام قرطاج السينمائي على جمهورها بشيء، برنامج أفلام ضخم كالعادة، مئات العروض لمجموعة كبيرة من أهم الأفلام العالمية والعربية والأفريقية، مع اهتمام خاص هذا العام بالنظر إلى الماضي، باعتبار المهرجان يحتفل بالذكرى الخمسينية لتأسيسه (1966-2016)، بما يتضمنه هذا من اختيارات شيقة لأفلام كانت لها لحظاتها الخاصة مع الجمهور التونسي.
إلا أننا في هذا المقال نختار بين أحدث الإنتاجات، لنُرشح للجمهور الذي أعده أفضل جمهور مهرجان في البلاد العربية كلها، هذه الأفلام العشرة التي ينبغي اللحاق بها على شاشات قرطاج. أما من لم تتح له فرصة الحضور، فليحاول مشاهدتها في مكان آخر، وليأمل أن يخوض يوماً تجربة الوجود في هذا الحدث ذي المذاق الخاص.
"زهرة حلب" (تونس)
لم يكن من الممكن أن تجد أيام قرطاج السينمائية فيلماً أفضل لافتتاح الدورة الجديدة، فإذا كان الجمهور يشاهد الفيلم إما لمخرجه أو نجومه أو موضوعه، فإن "زهرة حلب" الذي تشهد الأيام عرضه العالمي الأول يجمع الميزات الثلاث. مخرجه هو رضا الباهي، واحد من أهم الأسماء في تاريخ السينما التونسية، وبطلته هي هند صبري، النجمة التي تعود إلى قرطاج حيث انطلقت شهرتها صبية قبل أعوام طويلة وقت "صمت القصور"، وموضوعه هو موضوع الساعة في العالم بأكمله، تنظيم "داعش" وكيف يمكن أن تكتشف أسرة تعيش على بعد آلاف الأميال أن ابنها قد انضم للجماعة الإرهابية.
"بكالوريا Bacalaureat" (رومانيا)
عندما نذكر كرستيان مونجيو فنحن نتحدث عن أحد أساتذة السينما في العالم، الذي دشن موجة السينما الرومانية الجديدة بفيلمه الأشهر "أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"، وسار على دربه مجموعة صنعت اتجاها سينمائياً يشار له بالبنان. في فيلمه الجديد "بكالوريا" المتوج بجائزة الإخراج في مهرجان كان يواصل مونجيو لعبته المعروفة: السينما القائمة على صورة واقعية بسيطة، خالية من البهرجة والألاعيب البصرية. فقط كاميرا تتابع أحداث سيناريو يتحرك بعجلة سريعة، وينطلق من الخاص إلى العام، من شخصيات يمكن أن تقابلهم في الحياة اليومية إلى آراء واضحة في المجتمع الروماني المعاصر بعد ربع قرن من الثورة ضد نظام تشاوشيسكو، هذه المرة انطلاقاً من حادث بسيط يقع صباح يوم امتحان البكالوريا في البلاد.
"بركة يقابل بركة" (السعودية)
واحد من أمتع مفاجآت العام وأخفها ظلاً، وبالطبع أكثرها جرأة ومخالفة للتوقعات، ويكفي أننا في فيلم سعودي تم تصويره بالكامل داخل المملكة بممثلين وممثلات من مواطنيها، نشاهد شاباً يشتري لحبيبته هدية عبارة عن قطعة ملابس داخلية، فيكون رد فعلها هو الاستياء لأن إهداء الملابس الداخلية صار موضة قديمة لم يعد أحد يفعلها منذ الثمانينات! بهذه الروح الجريئة والطريفة يطرح المخرج محمود صبّاغ عدداً من القضايا الشائكة في السعودية، كالفصل الإجباري بين الجنسين، التفرقة في تطبيق القانون بين الأغنياء والفقراء، الثقافة السطحية وتسليع الفنون، كلها أمور يعبر عليها "بركة يقابل بركة" دون أن يفقد قدرته على الإضحاك.
"طوني إردمان" (ألمانيا)
خلال العرض الصحفي لفيلم المخرجة مارين أدي ضمن مهرجان كان السينمائي الأخير، انفجرت صالة ديبوسي الضخمة بالضحك مرات عديدة، بل وصفق الحضور بحرارة بعد أحد المشاهد، وهو أمر لم يعرف نادر الحدوث في العروض الصحفية بمهرجان كان تحديداً. المبهر في "طوني إردمان" هو أن ما يبدو للوهلة الأولى مجرد حكاية كوميدية يتطور لما هو أكثر بكثير. أب ينتحل شخصية غريبة الأطوار كي يدخل حياة ابنته التي تركته لنعيش في بلد آخر، من هذا المدخل تتوالد المواقف تلو الأخرى، ليمتزج الضحك بوجهة نظر دقيقة يحملها الفيلم تجاه الحياة المعاصرة بأكملها.
"أبداً لم نكن أطفالاً" (مصر)
كان هذا الفيلم التسجيلي هو مفاجأة الدورة السابقة من مهرجان دبي السينمائي، عندما انتزع جائزتي أحسن فيلم غير روائي وأحسن إخراج لصانع الفيلم محمود سليمان، متفوقاً على كل مخرجي الأفلام الروائية المتنافسة. خيار يعكس قيمة إنجاز سليمان في رحلة دؤوب سجل خلالها حياة أم مصرية فقيرة تحاول تربية أبنائها الأربعة لمدة ثلاث عشرة سنة كاملة. الدأب جعل الكاميرا جزءً من حياة الشخصيات، ومكن المخرج من الإمساك بلحظات صدق وحميمية من العسير بلوغها على الشاشة، ليروي حكاية تجتمع فيها العذوبة بالألم، ومحبة الشخصيات بالدهشة والأسف على ما يمكن أن تسير إليه مصائر البشر.
"نحبك هادي" (تونس)
هذا واحد من أذكى الأفلام العربية التي صُنعت خلال الأعوام الأخيرة. فيلم المخرج محمد بن عطية الذي انتزع جائزتي أحسن ممثل وأحسن عمل أول من مهرجان برلين الماضي هو نموذج للفيلم محكم الصياغة، الذي يقول كل شيء دون أي صراخ أو خطابة، مجرد حكاية بسيطة عن شاب يكتشف فجأة أن هناك ما هو أمتع من الحياة التي اختارها الآخرون له. فيلم نضج coming of age film مثالي إلا أنه لا يأتي في سن المراهقة كما هو الطبيعي في كل مكان، ففي بلادنا العربية قد يصل البعض سن الكهولة دون المرور بالمسار الطبيعي لنضجه النفسي والعاطفي، والسياسي ربما!
"خوليتا" (إسبانيا)
سيعتمد تقديرك لهذا الفيلم على علاقتك بسينما صانعه، الإسباني بيدرو ألمودوفار، رجل الألوان الصارخة والشخصيات المجنونة، الهوية الجنسية المضطربة والخيانة التي تُفضي لانتقام، وغيرها من التيمات التي يحفظها كل محب لسينماه. إذا لم تكن من هواة سينما ألمودوفار فستجده عملاً متوسط المستوى، يمتلك بعض المشاهد واللحظات الممتازة على خلفية حكاية فضفاضة تميل للميلودراما. أما لو كنت أحد المحبين فستكون مشاهدة الفيلم فرصة مثالية لإمتاع البصر والقلب قبل العقل، بالشخصيات المثيرة والتيمات التي يهوى الرجل تكرارها، بتباينات الألوان التي لا يجرؤ عليها مخرج آخر، وبروحه المسيطرة على كل تفاصيل الفيلم.
"وقائع الليالي السود" (الجزائر)
واحد من أفضل الأفلام الجزائرية خلال الأعوام الأخيرة. سالم الإبراهيمي يستخدم إيقاعاً رصيناً ليروي قصة مُحمّلة بالذعر المبطن، بدءً من سنوات ما قبل عشرية الإرهاب وصولاً لذروتها. اختيار المخرج للهدوء المسيطر على فيلم سياق أحداثه هو الجنون الكامل، خيار ساعد في توصيل الفكرة المخيفة: هذا قد يحدث في أي مكان آخر، لا تدع أن وطنك مختلف لأنه من يترك الذئاب ترعى في فناء منزله لا يحق له أن يشتكي أذاها، ومن يعطي الإسلام السياسي الفرصة في التوغل داخل مجتمع، يساهم بشكل مباشر في تعريض وطنه لخطر الإرهاب الدموي، حتى لو حاول إنكار الأمر والتعايش معه.
"إلهيات Divines" (فرنسا)
فوز الفرنسية من أصل مغربي هدى بن يمينة بجائزة الكاميرا الذهبية كأفضل عمل أول خلال مهرجان "كان" لم يكن انتصاراً للسينما العربية كما كتب البعض، ففي النهاية الفيلم فرنسي بحكم الكثير من الأمور. لكن الجائزة كانت انتصاراً للسينما الجميلة والمعاصرة.
"إلهيات" هو فيلم اللحظة، عمل ابن منتصف العقد الثاني من القرن، بتعقد أوضاعه مراهقيه الاجتماعية والمادية والثقافية، التي تجعل أي تطلع لحياة أفضل لابد وأن يرتبط بصراع ما، صراع قد يبدأ بمقاطع فيديو خفيفة الظل مصنوعة بتطبيق "سناب شات"، لكن من الوارد أن ينتهي بصورة أكثر خطورة مما يتوقعه الجميع.
"3000 ليلة" (فلسطين)
بعد خبرة ممتدة في عالم السينما التسجيلية تصنع مي المصري فيلمها الروائي الأول، وفيه نلمس نضج صانعة أفلام قادرة على الإمساك بأدق تفاصيل عملها كي تحوّل قصة لا تحمل الكثير من التجديد إلى فيلم متميز يستحق المشاهدة. فتاة فلسطينية تدخل أحد السجون الإسرائيلية بسبب تطوعها بمساعدة شاب أصيب خلال إحدى العمليات، وعندما ترفض اتهام الشاب ظلماً بأنه أجبرها على معاونته يُحكم عليها بالسجن ثماني سنوات (من المدة يأتي عنوان الفيلم)، لتواجه عالم السجن الذي يجمع بين القسوة عموماً والعنصرية تجاه السجينات الفلسطينيات خصوصاً. دراما سجون متقنة الصنع، مؤثرة محكمة بصرياً، خاضت رحلة نجاح في المهرجانات منذ عُرض "3000 ليلة" للمرة الأولى خلال مهرجان دبي.