حالة من الرضا سادت أروقة مهرجان مالمو للسينما العربية بعد إعلان نتائج المسابقات الرسمية الثلاث لدورة المهرجان الثالثة، والتي استضافتها المدينة السويدية في الفترة بين 30 سبتمبر و5 أكتوبر.
الرضا منبعه القناعة بأن الجوائز تعبر بالفعل عن الأفضل، لاسيما في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، والتي تنافس فيها 8 أفلام مُختارة بعناية من بين ما أنتجته السينما العربية خلال الأشهر الماضية.
لجنة التحكيم المُشكلة من الناقد اللبناني إبراهيم العريس والمخرج المصري عمر عبد العزيز والكاتبة المغربية فاطمة الوكيلي قررت بالإجماع ـ وفق ما قيل لحظة الإعلان ـ منح جائزة أحسن فيلم للفلسطينية مي المصري وفيلمها "3000 ليلة". المخرجة التي برعت في عالم السينما التسجيلية قبل أن تُقدم عملها الروائي الأول، عن فتاة فلسطينية تودع داخل أحد السجون الإسرائيلية بسبب تطوعها بمساعدة شاب أصيب خلال إحدى العمليات، وعندما ترفض اتهام الشاب ظلماً بإجبارها على معاونته يُحكم عليها بالسجن ثماني سنوات (منها يأتي عنوان الفيلم).
وبين التفرقة داخل السجن بين الفلسطينيات والإسرائيليات، خيانة الحبيب التي تتعرض لها البطلة (ميساء عبد الهادي في أداء منضبط)، ومحاولات إدارة السجن استمالة الفتاة وتأليب رفقاها عليها، تروي مي المصري حكايتها بصورة ديناميكية تجعل المكان عنصراً رئيسياً في دراما الفيلم الذي توّج إيضاً بجائزة الجمهور في نهاية المهرجان.
جائزتان لنوّارة
السينما المصرية تنافست بفيلمين هما "هيبتا: المحاضرة الأخيرة" لهادي الباجوري و"نوّارة" لهالة خليل، والأخير تمكن من انتزاع جائزتي أحسن سيناريو وأحسن ممثلة لبطلته منّة شلبي.
"نوّارة" الذي تحدثنا عنه من قبل في مقال تفصيلي يكاد يكون أول فيلم يعبر عن تأثير ثورة يناير الحقيقي على بسطاء المصريين، هؤلاء الذين لا يملكون ترف الموقف السياسي بسبب الانسحاق تحت عجلات أكل العيش، والذين ارتفعت أحلامهم لتبلغ عنان السماء ثم عادت لتتحطم على صخرة واقعٍ مؤلم.
تكرار حصول منّة شلبي على جوائز التمثيل في أكثر من مهرجان يوضح قيمة الأداء الذي قدمته لشخصية نوّارة، بكل ما يجتمع فيها من براءة وقوة شخصية وضعف أنثوي وشهامة مخلوطة بالسذاجة، السمات التي عبرت عنها منّة بالجسد قبل الكلمات، لتؤكد قيمتها كواحدة من أهم الممثلات العربيات حالياً.
جائزتا "نوّارة" لم تكونا كل ما نالته السينما المصرية، فالمخرج شريف البنداري توّج فيلمه "حار جاف صيفاً" بجائزة أحسن فيلم قصير مناصفة مع الفيلم العراقي "مملكة النفايات". بينما نال مشروع "في بلاد العجائب" لنادين خان جائزة ملتقي سوق مالمو، وقيمتها 150 ألف كرون سويدي دعماً لإنتاج الفيلم الذي سيكون الثاني لنادين بعد "هرج ومرج".
جوائز للسينما الأردنية والجزائرية والأماراتية
المخرج الجزائري لطفي بوشوشوي نال جائزة الإخراج عن فيلمه "البئر"، الذي سبق وتوج بعدد من الجوائز أبرزها أربع جوائز كاملة في مهرجان الإسكندرية 2015. الفيلم المصنوع ضمن احتفالية بخمسينية الثورة الجزائرية هو عمل محدود ومحكم، مصنوع باقتصاد لا يرغب في تقديم أضخم فيلم أو سرد كل شيء عن ثورة الجزائر وأبطالها. بل يختار حادثة بعينها هي حصار فرقة فرنسية لقرية ومنع دخول الماء إليها، ظناً منهم أن القرية تأوي المناضلين الثوريين.
اختيار الواقعة يجعل أدوات المخرج واضحة: القرية وسكانها والفرقة الفرنسية، ليقوم بوشوشي باستخدام هذه العناصر في صياغة حكاية مؤلمة، تتحول فيها الطبيعة إلى خصم شديد القسوة، يجبر أهالي القرية البسطاء على مواجهته عندما توضع حياة أطفالهم على المحك. لجنة التحكيم قامت أيضاً بمنح شهادة تقدير وتنويه خاص للطفلين بطلي الفيلم الإماراتي "ساير الجنة" للمخرج سعيد سالمين المري.
تتبقى جائزة التمثيل للرجال والتي نالها الممثل الفلسطيني أشرف برهوم، بطل الفيلم الأردني "المنعطف" للمخرج رفقي عسّاف، عن دور يمثل بشكل ما مكافئ نفسي أو Alter Ego لمخرج العمل. راضي رجل صامت، يعاني من رهاب اجتماعي، يعيش وحده داخل شاحنة حوّلها لما يشبه المنزل الصغير، يتنقل بها وينام داخلها ويحاول قدر الإمكان تفادي التعامل مع البشر، لكن الصدفة تجمعه بفتاة وشاب يصيران رفيقا رحلته. برهوم لا يكاد ينطق طيلة العمل، لكنه يحوّل شخصية راضي إلى كتلة من المشاعر المتضاربة، الحزن والخوف والجرأة والبرود، استحق عنها جائزة التمثيل.
جائزة أخرى أردنية هي جائزة أحسن فيلم وثائقي، والتي منحتها لجنة تحكيم شارك فيها كاتب هذه السطور مع المنتجة السويدية كينا أولاندر والممثلة اللبنانية مادلين طبر إلى فيلم "عايشة" للمخرج أسما بسيسو. بورتريه كلاسيكي عن فتاة عاشت حياة غير تقليدية. عائشة تربت في ملجأ للأيتام بينما والديها على قيد الحياة لكنهما غير راغبين في تربيتها، تزوجت مبكراً من أجنبي عجوز وجدت فيه تعويضاً عن غياب الأب، وعانت في سنوات عمرها القليلة من تقلبات نفسية واجتماعية رصدتها المخرجة في فيلم قد لا يحمل إنجازاً على المستوى البصري، لكن فيه من الزخم النفسي والإمساك بروح الشحصية ما جعله التسجيلي الأفضل. بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم في نفس المسابقة للفيلم السوري "جلد" للمخرجة عفراء باطوس.
الرضا كان الشعور العام عند استقبال أسماء الفائزين، لكن الأهم منه هو شعور السعادة الذي سيطر على الجميع، لاسيما خلال حفل الختام الذي احتضنته صالة مالمو لايف الهائلة التي تتسع لقرابة 1500 شخص. الصالة امتلأت عن آخرها بالوجوه العربية والسويدية، وجوه جائت لحضور الحفل ومشاهدة التكريمات وفيلم الختام "هيبتا: المحاضرة الأخيرة"، والاحتفال مع صناع مهرجان مالمو وضيوفه بنجاح دورة جديدة من مهرجان يصير أكبر في كل عام.
اقرأ أيضا
خاص في الفن .. رسالة مهرجان مالمو للسينما العربية (1): خمس عبارات تكفي
"لف ودوران".. كل هذا الإحباط!
"حملة فريزر".. فكرة قديمة وعناصر طازجة
"كلب بلدي".. انفصال ضروري وخطوة للخلف