الأفلام التي تتعرض لحوادث ووقائع حقيقية شهيرة، يغيب عنها جزء من التشويق عادة، لأن المتفرج يعرف مُسبقا طبيعة النهاية. الكل يعرف مثلا أن "تيتانك" ستغرق، والإثارة ترتكز بالأساس على مسار البطل والبطلة وباقي الشخصيات، وسط هذه الكارثة.
في Sully قصة أخرى حقيقية عن واقعة حدثت في يناير 2009 عندما اصطدمت طائرة ركاب أمريكية تضم 150 راكب، بسرب طيور بعد إقلاعها بدقائق، على ارتفاع منخفض جدا. قوة التصادم تسببت في توقف تام في المحركين، أجبر قائدها "سولي سولينبرجر" على الهبوط بها في النهر.
سيناريو مرعب يصعب إحصائيا تخيل أي نهايات سعيدة له، لكنه انتهى فعليا بنجاة جميع الركاب بلا استثناء. وبفضل هذه النهاية أطلقت وسائل الإعلام على الواقعة وقتها "معجزة على نهر هدسون" Miracle on the Hudson.
الفارق الزمني بين لحظة اصطدام الطائرة بسرب الطيور، ولحظة الهبوط الاضطراري على النهر استغرق 208 ثانية فقط لا غير. مدة قصيرة جدا يصعب معها تحويل الواقعة لفيلم روائي، لكن للمخرج كلينت إستوود والسيناريست تود كومارينشي رأى أخر، انتهى بفيلم جيد جدا فعلا.
شاهد إعلان فيلم Sully
لتحويل الواقعة إلى دراما طويلة، تصيد السيناريو المقتبس من كتاب يخص سولي نفسه، إجراء روتيني متبع بعد كل حوادث الطيران، يقوم فيه "المجلس الوطني لسلامة النقل" الأمريكي بالتحقيق في كل حادثة. دراسة كل الاحتياطيات والسيناريوهات والمعطيات والاختيارات الأخرى المتاحة للطيار، ومقارنتها بما فعله. وذلك لتحديد درجة مسئوليته من ناحية، ولإعداد إجراءات سلامة ودروس مُستفادة، لتفادي تكرار نفس الحادث مستقبلا، من ناحية أخرى.
إلى حد ما يمكن القول أن إستوود أختلق من موظفي هذا التحقيق، نموذج لشرير الفيلم الذي يحاول إلقاء اللوم على البطل بتزييف أدلة، وهى نقطة أثارت بالفعل تصريحات اعتراض من هذا المجلس مع عرض الفيلم، باعتبارها غير حقيقية. والطريف أن الفيلم يحاول أن يختلق أيضا بدرجة أقل، تشكيك إعلامي للطيار، يخالف تماما ردود الفعل الإعلامية الحقيقية وقتها.
في المقابل ترتكز تحديات البطل في عنصرين. الأول أن يسترد ثقته بنفسه وبصحة قراراته واستنتاجاته لحظات الحادثة، والثاني أن يثبت للكل أن ما فعله كان أفضل المُتاح فعلا.
بالنسبة لإستوود لا توجد أيضا "معجزة" بالمعنى الخارق المعتاد للوصف، وطوال الفيلم يتبنى السرد رؤية أخرى. النجاة حدثت بفضل رجال مخلصين ومجتهدين في عملهم. النموذج الأمريكي للرجل المتواضع العادي، الذي قام بعمله وواجبه على أكمل وجه، في ظرف غير عادي نهائيا.
مع هذا الطرح لا يوجد بالقطع وسط نجوم هوليوود كلهم، من هو أفضل من توم هانكس لدور البطولة. هانكس بعيدا عن قدراته التمثيلية العالية التي يثبتها هنا من جديد، يطابق المطلوب تماما. رجل الشارع الأمريكي العادي المخلص النبيل المتواضع المهذب، الذي يحتمل الكثير والكثير باعتباره جزء من واجبه.
بالنسبة لإستوود يظل هذا الهاجس ثابتا. البطل الكتوم الذي يقوم باللازم، ويقابل بالرفض والإدانة من أبناء وطنه أو جماعته. توجد في الحقيقة مساحة مشتركة بين بطلنا "سولي" هنا، وبطل فيلمه السابق "القناص الأمريكي" American Sniper رغم اختلافهما. كلاهما شريف يحب وطنه وأسرته، يقوم بعمله على أكمل وجه، ويتعرض لتشويش أو لطعنة نفسية من أوغاد، تنال من ثقته واعتزازه بنفسه.
النزعة الوطنية اليمينية المحافظة لإستوود تُشيد أيضا بنموذج محدد، ولهذا تستدعي الأحداث في مشهد، خدمة "سولي" في الجيش الأمريكي سابقا. "سولي" و"كريس كايل" في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، أساسها الإحساس بالمسئولية والإتقان والوطنية، وهى صفات تُصقلها المؤسسة العسكرية أفضل من غيرها، من وجهة نظر إستوود.
تظل الـ 208 ثانية هي نقطة الذروة في الأحداث والقصة، وسيناريو الفيلم يوظفها عدة مرات داخل السرد. مرة من منظور عام مُتداخل. مرة من منظور الطيار سولي ومعاونه "جيف" (آرون إيكهارت) داخل الكابينة. مرة من منظور الركاب والمضيفات. مرة من منظور موظفي المطارات الذين تابعوا الحادثة. وهكذا.
في كل مرة، ينجح إستوود في العودة بنا كمتفرجين إلى نقطة الصفر. الكل يعرف النهاية السعيدة، لكن في كل هذه المقاطع نعايش من جديد، صعوبة التجربة بنفس رعبها وثقلها وقسوتها.
على عكس أغلب المخرجين، لا وجود هنا لأي استعراض عضلات، أو للإبهار في تنفيذ مشاهد السقوط. عين إستوود الخبيرة ترتكز بالأساس على البشر الموجودين في القصة، وتفاعلهم مع هذه اللحظات، وليس على ما يمكن أن تثيره مشاهد سقوط طائرة في نهر، من فرص لإبهار بصري هوليوودي، لا يفيد قصته.
تجدر الإشادة هنا باثنين مهمين ضمن فريق عمل إستوود الدائم. مدير التصوير توم سترن الذي ترك بصمة بصرية تتلاءم مع صعوبة الموقف، وبرودة الجو يوم الحادث في مشاهد النهر. والثاني هو "المونتير" الشاب بلو موراى، الذي شارك كمونتير مساعد في أغلب أفلام إستوود منذ بداية الألفية، ونال هنا للمرة الأولى الفرصة كاملة لإدارة المهمة بنجاح.
رغم كل ما سبق من مزايا لا يخلو الفيلم من عيوب. إذا تجاوزنا مبدئيا نقطة اختلاق أزمات وهمية مع الإعلام، ومع هيئات السلامة والنقل الأمريكية التي حققت في الواقعة، واعتبرنا ما سبق تجاوز درامي مقبول أو ضروري، يبقى للفيلم سلبيات مهمة، منعته من الوصول للكمال المنشود.
لورا ليني مثلا تقدم دور الزوجة القلوقة، بشكل مزعج ومنفر نسبيا، وهو شيء لا يتعلق بعيب في أداءها كممثلة، بقدر ما يتعلق بتواجد الشخصية نفسها في القصة، وطبيعة المراد منها. محاولة السيناريو توظيفها كوسيلة لطرح معلومات عن الأسرة، وعن ضغوط أخرى تواجه "سولي"، جعل للشخصية طبيعة مزعجة وغير منطقية دراميا، خصوصا بالقياس إلى حجم الواقعة التي مر بها الزوج.
وبدرجة ما توجد أيضا نبرة إنشائية في بعض مقاطع الحوار، الخاصة بصبغ صفة البطولة على كل الفرق والمجموعات التي شاركت في إنقاذ الركاب، بعد استقرار الطائرة في النهر.
لكن حتى مع هذه العيوب وغيرها، يظل الفيلم خطوة أخرى موفقة في مسيرة توم هانكس كممثل، ومسيرة إستوود كمخرج. إستوود البالغ من العمر 86 عاماً، يظهر الآن في اللقاءات التليفزيونية بجسد عجوز ولسان مرتعش، لكن لا تجعل هذه الهيئة تخدعك. داخل هذا الجسد العجوز المُتهالك، عقل نشط يعرف جيدا كيف يسرد القصص ببراعة على شاشة السينما.
وتماما مثل بطل الفيلم "سولي" الذي يعتز بتاريخه على مدار أكثر من 40 سنة في الطيران، يحق لإستوود أن يعتز أيضا بمشوار سينمائي فريد، على مدار 60 سنة في هوليوود. لا عجب أنه ترك في نهاية فيلمه هنا، مشهد ذكي أخير يبدأ بعد ظهور التترات، يحتفل فيه بالخبرة، وبالكبر في السن، وبمرور السنوات، وبتقدير الجمهور لكل من يتقن عمله!
باختصار:
في تاريخ كلينت إستوود وتوم هانكس أعمال أفضل، لكن الفيلم إعادة تذكرة لأسباب احتفاظ النجمين، بمكانة مستحقة ضمن أساطير هوليوود على مدار عقود وعقود. الاثنان مثل "سولي" بطل الفيلم. رجال يتقنون عملهم دوما لدرجة تستحق تقدير واحترام خاص.
اقرأ أيضا: "دستة أفلام" مُنتظرة في سباق أوسكار ٢٠١٧