على مدار سنوات تعايشنا مع مقولة يرددها الكثيرون بإطراد، مفادها أن أحمد حلمي هو أذكى أبناء جيله من النجوم، وأكثرهم رغبة في التجريب والتجديد.
المقولة انطلقت من مرحلة سابقة في مسيرة حلمي المهنية، وبالتحديد عندما قدم فيلمين ممتازين مختلفين في النوع والشكل والمضمون هما "كده رضا" و"آسف على الإزعاج". لكن المؤسف حقاً هو أن حلمي من وقتها يفعل في أفلامه كل شيء لينفي هذه الأسطورة الشخصية، في سلسة من التراجع آخرها أحدث أفلامه "لف ودوران" الذي كتبته منة فوزي وأخرجه خالد مرعي، والذي استبشرنا به خيراً لكن النتيجة لم تكن على قدر المنتظر.
حلمي قبل "لف ودوران"
إذا اسثنينا "عسل أسود" الذي يمتلك حكاية وطبيعة خاصة سنجد أن حلمي قدم خمسة أفلام متتالية تقوم على قالب درامي واحد وحكايات تبدو ظاهرياً مختلفة لكن جوهرها يكاد يكون متطابق: شاب ناجح مهنياً، لا يعاني من مشكلات مادية، لكنه يمتلك صفة إنسانية سيئة تفسد حياته الناجحة، فهو أناني في "ألف مبروك"، شهواني في "بلبل حيران"، أكول نهم في "إكس لارج"، ديكتاتور قاسي القلب في "على جثتي"، وكسول في "صنع في مصر".
البطل في كل مرة لا يلاحظ مشكلته ولا يعترف بها، حتى يتعرض لتجربة غريبة لها في الأغلب شق خوارقي (يتكرر يومه بصورة لا نهائية - يفقد ذاكرة آخر ستة أشهر - يموت مثله الأعلى بصورة مخيفة - يتحول لشبح لا يراه من حوله - يتبدل جسده مع دب باندا ضخم)، لتتسبب التجربة في إدراكه لضرورة تغيير هذه الصفة في نفسه، ليتخلص بالفعل من مصدر إفساد حياته وحياة الآخرين ويحقق السعادة.
لاحظ أن الأفلام الخمسة من تأليف وإخراج عشرة أشخاص مختلفين، خالد دياب ومحمد دياب وأيمن بهجت قمر وتامر ابراهيم ومصطفى حلمي كمؤلفين، وأحمد نادر جلال وخالد مرعي وشريف عرفة ومحمد بكير وعمرو سلامة كمخرجين، بما أشار لنا بوضوح على كون النجم هو المحرك والمصدر الرئيسي للقالب الذي وجده مناسباً للصورة التي يريد تصديرها عن نفسه. الصورة التي بدأ الجمهور يمل منها بدليل تراجع إيرادات آخر فيلمين بصورة ملحوظة عما سبقهما.
هذه هي الظروف التي دخل بها أحمد حلمي تجربة "لف ودوران" بعد غياب أكثر من عامين عن شاشة السينما، نجم يحاول العودة بقوة لمكانة امتلكها قبل سنوات وفقد جزءًا منها عبر اختيارات غير موفقة، عودة لمخرج بقيمة خالد مرعي الذي قدم حلمي معه أثنين من أهم أفلامه "آسف على الإزعاج" و"عسل أسود"، وكاتبة سيناريو جديدة حاولت نظرياً أن تُخرج النجم من العباءة التي حصر نفسه داخلها في الأفلام السابقة.
مدخل جيد.. لعمل لم يكتمل
مرشد سياحي شاب يعيش مع عائلته المكونة من أربع سيدات هن أمه وجدته وشقيقته وخالته، هو رجلهم الوحيد لكنه يحلم بالهجرة للخارج، بسبب موقف طارئ يسافر إلى شرم الشيخ مع امرأة أجنبية بصحبة قريباته الأربع، ليكتشف وجوده مع فتاة (دنيا سمير غانم) عليه التظاهر بأنها زوجته، فتتآمر القريبات معها من أجل إثناءه عن فكرة الزواج من الأجنبية والسفر.
هذا بالتأكيد مدخل لفيلم جيد، أو على الأقل لفيلم مختلف عن الحكاية المكررة المذكورة، و"مدخل" يعني فكرة جيدة يمكن الانطلاق منها، لكن كي تتحول الفكرة فيلماً فهناك مرحلتين رئيستين على الأقل لابد من المرور بهما، أن تُصاغ في سيناريو يتم تطويره بحيث تسير الحكاية بشكل منطقي مترابط، وأن يتم نقل هذا السيناريو إلى الشاشة في صورة لقطات ومشاهد محكمة ومقنعة، تروي الحكاية وتنهيها بشكل يصل بالجمهور إلى استنتاج ما يبرر مشاهدة الفيلم.
الأزمة هي أن "لف ودوران" يعاني من مشكلات في المرحلتين، مشكلات في الكتابة أفقدت الحكاية منطقها وأفسدت متعة مشاهدتها حتى على مستوى متابعة حكاية طريفة مسلية، ومشكلات في التنفيذ جعلت الفيلم يبدو مبتوراً، وكأنه عمل منقوص تم اقتطاع أجزاء منه جعلته لا ينتهي على شيء متماسك.
سيناريو يعادي المنطق
صياغة الفكرة أو المدخل في صورة سيناريو يحتاج للعمل بالتوازي على الشخصيات والبناء الدرامي، على الكاتبة أن ترسم شخصيات مميزة لها منطقها وأهدافها الخاصة (على الأقل الشخصيات الرئيسية)، وتضعها داخل حكاية تتحرك وفقاً لبناء منطقي يمكن للمشاهد أن يقتنع بحدوثه طبقاً لمنطقية عالم الفيلم، وهو هنا عالمنا الطبيعي بقواعده وعلاقاته وأزماته.
الفيلم لا يجيب على أهم سؤالين لابد منهما حول شخصية البطل: من هو؟ وماذا يريد؟ فلا تُقدَم الشخصية بشكل يجعلنا نفهم تكوينها النفسي ودوافعها أو نعرف عنها أي شيء باستثناء المعلومات الأولية التي يُفتتح بها الفيلم لتعرفنا قرابة كل شخصية للبطل، حتى إنه لحظة المواجهة التي تتهمه قريباته أنه يعيش معهن بجسده لكنه بعيد بقلبه، كانت لحظة مفاجأة حقيقية لأن الفيلم لم يقدم البطل من هذا المدخل إطلاقاً، فلم نجده قاسي القلب مع قريباته الأربع، بل على العكس هذا شاب يخاف على مشاعرهن لدرجة اختلاق حجج كي يقنعهم بسفره لمدة أيام، وعندما تفشل الحجج يأخذهم معه في رحلته، في تصرف لا يقدم عليه حتى رجل محب لأهله بار بهم. أي أن الفيلم يريد طرح صراعاً إنسانياً مهماً، لكننا لا نكتشف هذا الصراع إلا في الوقت الضائع بسبب الفشل في إبرازه من البداية.
هذا على مستوى البناء النفسي، يضاف إلى ذلك مشكلة دوافع واضحة، نحن لا نفهم ما الذي يريده البطل في الحياة بالضبط. تتابعات البداية تكتفي بالإشارة لكونه يعيش في عالمه الخاص المكون من سلع مستوردة وكأن هذا كافٍ لفهم رغبته في الهجرة، بينما في المقابل لا نلمح طوال الفيلم أي ملامح أخرى لهذه الرغبة، فنحن نعرف من البداية أن الفتاة الأجنبية ما هي إلا قريبة لوالده ذهب ليقدم لها خدمة لا أكثر، وهو ما يجعل المشاهد يقف في نقطة مختلفة عن الأم والشقيقة والجدة والخالة، على الأقل هن يتصورن أن رجل الأسرة راغب في الهجرة، بينما الجمهور يعلم أنه باقٍ، خصوصاً مع ظهور البطلة التي من الطبيعي أن يقع في حبها.
المقارنة بين شخصيتي حلمي ودنيا تبرز أزمة الدوافع على المستوى المنطقي، فالبطلة لديها نسبياً الدوافع المقنعة لخوضها مغامرة الفيلم، لديها موقع إلكتروني أبرم إتفاق مهم وهذا الاتفاق مهدد بالفشل وعليها أن تخوض مغامرة إدعاء شخصية أخرى من أجل حماية عملها، وخلال هذه المغامرة تقابل شاباً يغير من مسار حكايتها، هذا شكل درامي منطقي ومقبول، أما البطل فعلى النقيض تماماً لا يمتلك أي دوافع كافية، لا نعرف عنه إلا أنه راغب في السفر لشرم الشيخ، من أجل الهرب من أسرته؟ ربما، من أجل مساعدة قريبة والده؟ بالتأكيد، من أجل استغلال الفرصة وقضاء عطلة؟ وراد. لكن جميع الاحتمالات لا تستقيم فيها منطقياً موافقته على اصطحاب أربعة سيدات معه، خاصة ونحن نتحدث ـ كما فاجئنا الفيلم ـ عن رجل بلا إحساس يعيش مع أهله بجسده فقط.
أزمة المنطق تتسع عند ترك الشخصيات والحديث عن البناء الدرامي. هذا مرشد سياحي ناجح لم يعطل عمله سوى تراجع السياحة، لكنه يحتاج رسم حجة لإقناع والدته وجدته ألا يأتون معه إلى شرم الشيخ كأي فتاة في الثانوية العامة (في الأغلب كان عمله السياحي الناجج سابقاً يتم في المنزل!). هذا شاب لديه شقة مستقلة يعيش فيها لكنه يقرر عمل مكالمة سرية مع والده في شرفة منزل الأسرة لأن هذه هي الوسيلة التي رأتها الكاتبة مناسبة كي تسمعه قريباته فتصررن على السفر معه. هذا فندق يقدم جناحاً أجر الليلة الواحدة فيه خمسة ألاف دولار من أجل قدوم عريس وعروسة لا يعرف أحد شكلهما لالتقاط صوراً دعائية في الفندق، وهو الفندق ذاته الذي يخالف القانون ويسمح للعروسين ليس فقط بالإقامة دون إظهار أي تحقيق شخصية، وإنما باحضار خمسة ضيوف إضافيين للإقامة معهم بكل أريحية!
يمكننا الاستمرار طويلاً في رصد الهفوات المنطقية في الفيلم، فلا يكاد حدث يقع أو تغيير تتعرض له الشخصيات دون أن يرتبط بفعل أو تصرف غير مقبول حتى بأبسط قواعد المنطق، الأمر الذي حول فكرة تحمل كما أوضحنا نواة لصياغة سيناريو جيد إلى أحداث هجينة تسير كيفما أتفق دون أي ضابط سوى رغبة صناع الفيلم في دفعه لهذا الاتجاه.
أين الفصل الثالث؟
(الجزء التالي قد يحرق نهاية الفيلم، يُنصح بقرائته بعد المشاهدة)
عند اللحظة التي يكتشف مدير الفندق (بيومي فؤاد) فيها أن من يقيمان عنده ليسا هما العروسين المنتظرين كان من الممكن إيجاد نقطة نهاية مقبولة للفيلم، خاصة وأن تلك النقطة تأتي بعد مشهد المواجهة بين البطل وأهله. غير أن هذه النقطة تأتي مبكراً جداً زمنياً، بعد 70 دقيقة تقريباً من بداية الأحداث وبعدما تم استهلاك المادة المتاحة درامياً بكافة الأشكال والصور والمواقف المتشابهة لتظاهر حلمي ودنيا بأنهما الزوجان الجدد.
المأزق تحله الكاتبة بفصلٍ ثان ممتد يجد البطلان فيها نفسيهما محتجزين في جزيرة مهجورة، كالعادة دون سبب منطقي واضح. هل هناك أدنى شك أن احتجازهما هناك مُدبّر؟ هل "جزيرة العشاق" تقع في أدغال الأمازون ليتوقع ولو مشاهد وحيد أو يتصور البطل (وهو كي لا ننسى مرشد سياحي) أنهما قد تُركا فيها ليموتا جوعاً وعطشاً؟
ثم وهو الأهم: ما علاقة هذا كله بأزمة البطل؟ هل يذكر صناع الفيلم أن مشكلة البطل الأساسية التي كشفوها قبل دقائق هي عدم قدرته على التواصل مع نساء أسرته؟ كيف سيساعده بقاءه مع الفتاة على جزيرة في تغيير هذا؟ لاحظ أن الخطة مُرتّبة أي يفترض نظرياً أن يكون لها هدف، لكن يبدو أن الحديث عن الافتراضات المنطقية أمر لا يوازي سحر وضع شاب وسيم وفتاة جميلة على جزيرة مهجورة ليتبادلا النكات والغناء ليصنعا أكبر فترة ركود درامي في الفيلم. الفترة التي ينتهي الفيلم بعدها بشكل مذهل في بتره، فجأة ودون مقدمات تنزل تترات النهاية عند اكتشاف البطل الخدعة مصحوبة بعبارة ساذجة "الرجل هو الرأس والأنثى هي الرقبة التي تحرك الرأس، وأنا قررت أقطع رقبتي".
ما الذي تعنيه هذه النهاية؟ لا نقصد معناها على المستوى الرمزي أو الفكري فهذا أمر أعقد مما يحتمله الفيلم، بل نقصد معناها على المستوى المباشر للحكاية التي تابعناها. هل سيترك البطل أهله ويسافر؟ هل سيبقى؟ هل سيتفهم موقف الفتاة التي وقع في حبها أم يتركها؟ هناك فصل ثالث كامل كان من الضروري أن يعرضه الفيلم لكن لسبب ما اختفى هذا الفصل وتم تعويضه بالعبارة المبهمة.
الكارثة أن الفيلم لو كان قد انتهي بالاكتشاف فقط دون هذه العبارة لكان من الممكن تحمل النهاية المبتورة المتعجلة وليّ ذراع وعنق الحقيقة كي نعطي ما شاهدناه نهاية ومعنى، لكن وجود العبارة المتحذلقة تغلق الباب تماماً في وجه أي محاولة لقبول ما شاهدناه في "لف ودوران"، هذا الفيلم الذي تعشمنا خيراً بأن يكون نقطة عودة أحمد حلمي إلى الطريق الذي بدأه قديماً فنال إشادات لم تتوقف، ليصدمنا الفيلم بقدر هائل من الإحباط الذي يجعل فيلماً مثل "على جثتي" عملاً بديعاً بالمقارنة بما شاهدناه.
اقرأ أيضا
"حملة فريزر".. فكرة قديمة وعناصر طازجة
"كلب بلدي".. انفصال ضروري وخطوة للخلف
"البس عشان خارجين".. مغامرة كوميدية مستمرة
رسالة لوكارنو السينمائي(4)- "الماء والخضرة والوجه الحسن".. يسري نصر الله يصالح السينما الفنية والتجارية
بالفيديو .. "الضحك لم يكن بالقدر الكافي" و أفضل دور لنسرين أمين فى "حملة فريزر" .. من مراجعة "فيلم جامد"