مع الاقتراب من ختام الدورة التاسعة والستين من مهرجان كان السينمائي الدولي مساء الأحد المقبل، تتصاعد وتيرة المنافسة وقيمة الأفلام المعروضة، وبعد أن كنا كل يوم نشاهد فيلمين في المسابقة أحدهما لمخرج كبير والآخر لمخرج أقل شهرة، أصبح هناك حدثين مرتقبين في كل يوم إن لم يكن أكثر، يوم بيدرو ألمودوفار وبريلانتي ميندوزا، يليه يوم الأخوين دردان وزافيه دولان، ثم يوم كرستيان مانجيو ونيكولاس ويندنج رِفن، وهكذا كل يوم نترقب أعمال كبرى فيخيب أمالنا أحياناً ونبتهج بأفلام ممتعة أحياناً أخرى.
الفتاة المجهولة
أحد أبرز الخيبات كانت فيلم "الفتاة المجهولة The Unknown Girl"، جديد الأخوين جان بيير ولوك دردان أصحاب سعفتين ذهبيتين من قبل عن رائعتيهما "روزيتا Rosetta" و"الطفل L'Enfant". والذي جاء مفتقداً لأهم عنصر يميز سينما البلجيكيين المخضرمين وهو السيناريو. شكلياً الفيلم درداني جداً، نفس البساطة في التكوين والتصوير، الحرية في حركة الكاميرا التي تتابع البطلة من أول الفيلم لنهايته دون أن تغيب عن الصورة أبداً، والتوجيه المحكم للممثلين وفي مقدمتهم البطلة أديل هاينل، التي تفتقد الكثير من السحر الذي اضفته ماريون كوتيار على فيلم دردان السابق "يومان وليلة Two Days and One Night".
هذه العناصر الشكلية ليست مشبعة وحدها كما هو الحال مع ألمودوفار مثلاً، بل هي لدى الأخوين دردان مجرد أداة كانت دائماً تحمل سيناريو مكتوب بإحكام مبهر افتقده هذا الفيلم تماماً. وبالرغم من البداية الجيدة في تقديم شخصية الطبيبة الشابة التي يبدو عليها العملية والمهنية وعدم الاستجابة للمشاعر حتى عندما يتعلق الأمر بشخصها (كرد فعلها عند احتفال زملائها بها في البداية)، وفي اختيار نقطة هجوم مثالية تبدأ عندها الأحداث هي الليلة الأخيرة للبطلة في عيادة تأمين صحيّ بحي فقير قبل الانتقال إلى وظيفة مرموقة في مركز كينيدي. لكنها تتعرض خلال تلك الليلة لحدث يغير كل شيء، عندما ترفض فتح باب العيادة لمريضة أتت بعد الموعد الرسمي بساعة، فتكتشف في الصباح أن الفتاة قد ماتت.
الحدث مؤثر بالطبع، لكنه ليس كافياً لإقناع المشاهد بالتغيير الجذري الذي يطرأ على البطلة، ليس فقط في هوسها بالقضية التي تحقق فيها بمفردها بل وتتوصل للحل قبل الشرطة، بل في شخصيتها التي صارت فجأة ضعيفة تجاه المشاعر، تترك فرصة عملها كي تساعد الفقراء، في ردود أفعال غير مفهومة، ومسار درامي متباطئ جعل قوة البداية تزول شيئاً فشيئاً لنصل في المحصلة لفيلم لا يشبه صانعيّه.
فقط نهاية العالم
زافيه دولان أيضاً لم يعد بأفضل أفلامه، لكنه في "إنها فقط نهاية العالم Just the End of the World" يتفوق على الأخوين دردان في احتفاظه بأقوى ما يملك. فإذا كان سر تميز البلجيكيين هو السيناريو والشكل لديهم وسيلة، فخصوصية سينما دولان تكمن في الشكل أولاً ثم الموضوع. الموضوع هنا لأول مرة يأخذه الشاب الكندي ذو السبعة وعشرين عاماً عن مسرحية بنفس الاسم لجان لوك لاجريس، والشكل يواصل فيه دولان تجاربه السردية في استخدام أساليب وحيل إخراجية تعبرها البعض بدائية وسطحية، لكنه يحكم توظيفها فتأتي معه بتأثير مغاير كلياً.
"إنها فقط نهاية العالم" مسرحية سينمائية، يرويها دولان في أثني عشر مشهداً رئيسياً كلها مشاهد حوارية بحتة، يستخدم فيها عدة حيل عتيقة الطراز في توظيف الفلاش باك وشريط الصوت، لسرد حكاية الكاتب المسرحي الذي يعود لمنزل أهله بعد غياب 12 عاماً كي يصارحهم باقتراب وفاته. المصارحة التي لا تتم أبداً رغم المواجهات الكلامية الحارقة التي لا تتوقف من أول لحظة في الفيلم وحتى نهايته. محصلة الدراما ليست كبيرة ولكن حرفة الإخراج هنا حاضرة بوضوح يستحق مقالاً مستقلاً سننشره خلال اليوم.
ما روزا
عندما أعلنت قائمة أفلام المسابقة قبل أسابيع وصفت مجلة فارايتي فيلم "ما روزا Ma'Roza" بأنه أقل أفلام المسابقة في توافر المعلومات حوله، بالرغم من كونه لمخرج معروف هو الفلبيني بريلانتي ميندوزا الذي شارك في كان ثلاث مرات سابقة نال في إحداها جائزة أحسن مخرج عام 2009 عن "كيناتاي Kinatay"، إلا أن تفاصيل فيلمه الجديد ظلت غير معروفة حتى أيام قبل انطلاق المهرجان.
"ما روزا" حكاية تدور في أفقر أحياء العاصمة الفلبينية مانيلا، عن الفساد والقبح والدولة الغائبة عن كل شيء، حول حكاية الأم المجتهدة التي تعمل لتنفق على أولادها وزوجها الكسول، عبر بيع الحلويات في متجر صغير وتوزيع المخدرات! نعم البطلة التي نتعاطف معها طيل الوقت تاجرة مخدرات، لكن بتقدم أحداث الفيلم ومعرفة حجم الفساد داخل الشرطة والمجتمع قد تسلم في النهاية بأن روزا لم يكن لديها سوى هذا الطريق.
الفيلم تم تصويره بلغة جمّة الخشونة، بكاميرا محمولة وصورة مسطحة تشبه صورة كاميرات الفيديو القديمة، في شكل ملائم تماماً للعالم ولرغبة المخرج في أن يأخذك إلى داخل الأحياء المزدحمة بالبشر والجريمة والضعف الإنساني. وإذا كان الفيلم ظل مجهولاً قبل المهرجان، فإنه أثبت وجوده فور عرضه، ولم يعد من الغريب أن ينال إحدى الجوائز عند خط النهاية.
اقرأ أيضا
خاص في الفن - رسالة كان (2) : "اشتباك".. الانحياز للحيرة في افتتاح نظرة ما
خاص في الفن - رسالة كان (1): "كافيه سوسايتي".. وودي آلان يفتتح المهرجان بفيلم اعتيادي ومتقن
بالصور- جورج كلوني ينقذ أمل علم الدين في مهرجان "كان"
إشادة نقدية عالمية بفيلم"اشتباك" ورصده لما بعد ثورة 25 يناير
صورة- ابن نيللي كريم وشقيقها يساندوها في مهرجان كان
خاص في الفن - رسالة كان (4): روائع المهرجان تبدأ في الظهور
رسالة كان (6): رسالة صادمة وفيلم رعب في يوم كان السادس
خاص في الفن - رسالة كان (7): "خوليتا".. بيدرو ألمودوفار يعود بفيلم ممتع في كان