إذا كان من أهم الأدوار التي ينبغي أن يلعبها أي مهرجان سينمائي تقديم السينما المحلية والثقافة الوطنية إلى العالم متمثلاً في الحضور من مختلف الجنسيات، فإن مهرجان دبي السينمائي يقوم بالمهمة على أكمل وجه في دورته الثانية عشر (٩-١٦ ديسمبر)، ليس فقط لأنه ينظم كالمعتاد مسابقة المهر الإماراتي التي يتنافس عليها أحد عشر فيلما حديثاً من الإنتاج المحلي، ولا لمسابقة المهر الخليجي القصير الذي يتنافس فيها ١٥ فيلماً أخرى من بينها ثلاثة أفلام إماراتية، ولا بتواجد فيلمين طويلين في مسابقة المهر العربي، بخلاف الأفلام المدعومة من قبل صندوقي إنجاز وسند، وهي عدد لا بأس به.
كل ما سبق يتعلق بالتواجد العددي، وبعرض أهم إنتاجات السينما المحلية باختلاف محتواها وأساليبها، لكن إذا ما تجاوزنا الكم وبحثنا عن الشق الآخر لدور المهرجان المذكور، وهو تقديم الثقافة الوطنية للعالم، فسيأتي على رأس علامات النجاح عرض الفيلم التسجيلي الطويل "في سيرة الماء.. والنخل.. والأهل" للمخرج ناصر الظاهري.
الفيلم طويل حقاً، يمتد لقرابة الثلاث ساعات، لكنها ساعات تمر سريعة، في ظل زخم هذا العمل بالمعلومات والمشاهد المثيرة لكل من يهتم بالثقافات والأعمال ذات الطابع الإثني Ethnic.
الموضوع باختصار هو سيرة الإمارات العربية قبل الاتحاد، متمثلة في عناصر الحياة الثلاثة في أي بيئة صحراوية والتي يبرزها المخرج في عنوان فيلمه: الماء والزرع والبشر.
فرصة تأريخية
ربما لا تملك الإمارات كدولة موحدة تاريخاً طويلاً، فالدولة احتفلت قبل أيام بعيد وحدتها الرابع والأربعين (2 ديسمبر 1971 هو تاريخ إعلان اتحاد الإمارات الست قبل انضمام رأس الخيمة لإكمال العقد بعد ثلاثة أشهر)، لكن هذا التاريخ القريب يمنح أي فنان أو باحث يحاول تقديم عمل يتعلق بتاريخ البلد فرصة تأريخية غير معتادة، هي وجود التاريخ على قيد الحياة، متمثلاً في المواطنين المُسنين الذين عاشوا قبل الاتحاد، وقبل طفرة الإنشاءات والتكنولوجيا التي شهدتها الإمارات، وارتبطت حياتهم أكثر بالثقافة الوطنية بصورتها الكلاسيكية، والتي يسعى الفيلم لتوثيقها، وبدلاً من البحث في الوثائق والآثار والحفريّات يقوم ناصر الظاهري بما يحلم به أي باحث: يقوم بتصوير مقابلات مع التاريخ نفسه.
بدأب شديد يعطي المخرج وقتاً لكل شيء، يتطرق لكل أشكال الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الإمارات القديمة. الزراعة وحفر الآبار، صيد السمك وتجارته وصناعة قوارب الصيد والأحبال والسلال والخزف، الطعام وأشكال الشواء وطرق إعداده، الحيوانات وقيمتها من إبل وصقور وكلاب صيد، النخيل وثقافته وصناعة التمور والفروق بينها، أشكال البناء وتاريخ القلاع الطينية، الأعياد وليالي السمر ووسائل التسلية والألعاب والغناء والرقص وبالطبع الشعر، وحتى الممارسات ذات الحس الخرافي مثل الزار البدوي. كلها أمور يقوم الفيلم برصدها بالصورة قبل الصوت، فشهادات المواطنين العجائز المدعمة بشروح ذكية من باحث تاريخي، تأتي في الترتيب الثاني من حيث القيمة الفنية، يسبقها تصوير كل ما سبق من تفاصيل، وهي تتم على أيدي من لا يزالوا مرتبطين بالتراث وممارسين لأنشطته.
المسافة طويلة بين زمن يحكي عنه أحد شخصيات الفيلم بأنه كان يسافر بواسطة الإبل ليحج فيصل في شهرين كاملين، وكان يقطع المسافة إلى أبو ظبي في ستة أيام، وبين زمننا الحالي الذي تمتلك فيه الإمارات واحدة من أقوى شبكات الطرق في المنطقة. بين تاريخ دولة لا يزال من حضروا أول طبيب يدخلها ليعالج أبناءها على قيد الحياة (روايات متكررة في الفيلم عن الطبيب البريطاني كينيدي الذي كان وصوله حدثاً ضخماً) وبين واقعها في يومنا هذا. الهوة الكبيرة بين نمطي الحياة وحدوثها في مسافة زمنية قريبة نسبياً كانت المفتاح الرئيسي لتأثير هذا الفيلم.
بين السينما والتلفزيون وأهداف فن الصورة
المخرج ناصر الظاهري ومعه المصوَر هانز فيلس يحاولان قدر الإمكان أن يكون عملهما مخلصاً للسينما، باللقطات الجمالية جيدة التكوين والاعتماد على صورة الحدث أكثر من الشهادات المسموعة عنه، لكن هذا لا يُخلّص الفيلم من ضريبة يجب أن تُدفع عند اختيار موضوع مثل هذا، هي المعلوماتية التي تصبغ العمل بحس تلفزيوني لا فكاك منه.
الفارق أن هذا الحس هنا لا يمكن اعتباره نقطة ضعف في سياق كون العمل مشروعاً تأريخياً إثنوجرافياً جاداً وناجحاً، وحقيقة كونه رغم تلفزيونية بعض أجزاءه فيلم ممتع وجذاب وقادر على التواصل مع المشاهد طيلة زمن عرضه الممتد، وهو ما يدفعنا للتفكير في معايير حكمنا على الأفلام، أو إذا أردنا الدقة في فهمنا لاختلاف أهداف فن السينما. ليس على كل الأفلام أن تكون شعرية متأملة أو مبهرة بصرياً أو أي شيء آخر، لا يجب على كل مخرج أن يفكر في أن يكون فيلمه منافساً على شيء ما، سواء كان هذا التنافس فني على جوائز المهرجانات أو تجاري على إيرادات الشباك.
هناك أفلام لها أهداف بسيطة، وأحيانا تكون هذه البساطة أكثر قيمة. قد لا يكون "في سيرة الماء.. والنخل.. والأهل" من أهم أفلام العام، قد لا ينال جوائز أو تتقاتل المهرجانات للحصول على حقوق عرضه، لكنه يظل تجربة ثقافية وفنية مهمة وممتعة، كان من حسن حظنا أن سمحت لنا الظروف لنشاهدها في دبي السينمائي.
Tweet to @shawforlife
نرشح لكم
"نوّارة".. أول فيلم مصري عن الثورة لا صورتها الذهنية
"قبل زحمة الصيف".. تجربة نادرة في سينما محمد خان
فيلم افتتاح مهرجان دبي السينمائي: "غرفة".. ثلاث حكايات وثلاث نقاط تميز
طالع أيضا
اختر أفضل وأسوأ إطلالات النجمات في افتتاح مهرجان دبي السينمائي الدولي
باسم يوسف ولميس "التركية" وأبلة فاهيتا في افتتاح مهرجان دبي السينمائي 2015
مهرجان دبي السينيمائي يعلن أعضاء لجان تحكيم مسابقات "المهر" في الدورة الـ 12
الممثلة الفرنسية كاترين دونوف تتسلّم جائزة "تكريم إنجازات الفنانين" من "مهرجان دبي السينمائي الدولي"
"قبل زحمة الصيف".. محمد خان يعود إلى مهرجان دبي السينمائي الدولي
تعرف على تفاصيل مهرجان دبي السينمائي الدولي 2015 قبل انطلاقه.. أبرز أفلامه والنجوم الحاضرين
آخر أفلام عمر الشريف يُعرض للمرة الأولى عالميا في مهرجان دبي السينمائي 2015